حوار حول كارل ماركس أجراه احمد المرزوق مع مؤيد احمد يوم 5 أيار 2019 الجزء الثاني والأخير

 

احمد المرزوق: يمكننا ان نقول إن الرأسمالية تنظر إلى الاقتصاد كأنه شيء منعزل عن البشرية ومعاناة البشرية وكذلك تجعل الإنسان موضوعا والهم الأساسي هو مراكمة راس المال بغض النظر عما الذي يعانيه الأنسان عند إنتاجه للمواد.

مؤيد احمد: بالتأكيد وهو كذلك. ولكن كشف أسرار هذه الطبيعة الاستغلالية وجعل الإنسان مجرد شيء (تشيئ الإنسان) في هذا النظام هو الذي نحتاجه كي نعرف كيف نواجهه. لا شك إن الطبيعة الاستغلالية للإنتاج الرأسمالي تكمن في كونها نظام عبودية العمل المأجور. محرك الاقتصاد في هذا النظام، وكما يشرحه ماركس، هو إنتاج فائض القيمة، أي إن عملية الإنتاج الاجتماعي ضمن نظام العمل المأجور خاضعة لقوانين إنتاج فائض القيمة. وكما نعرف إن الربح الرأسمالي هو فائض القيمة المنتج في عملية الإنتاج الاجتماعي وهذا الفائض ليس شيئا إلا العمل الزائد الذي يستحوذ عليه الرأسمال من استخدام قوة عمل العمال في عملية الإنتاج الرأسمالي.

في المقتبس التالي من “مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المكونة الثلاثة”، يوضح لينين أهمية اكتشاف ماركس نقد “علاقة بين الناس” في عملية الإنتاج الرأسمالي كعلاقة استغلالية وهو يقول” فان آدم سميث ودافيد ريكاردو اللذين درسا النظام الاقتصادي كانا قد سجلا بداية نظرية القيمة – العمل. وواصل ماركس عملهما. فعلل هذه النظرية بدقة وطورها بصورة منسجمة……وحيث كان الاقتصاديون البرجوازيين يرون علاقة بين الأشياء (مبادلة بضاعة ببضاعة أخرى) اكتشف ماركس علاقة بين الناس… والرأسمال يعني استمرار تطور هذه الصلة: فان قوة عمل العمال تغدو بضاعة … وان نظرية القيمة الزائدة تشكل حجر الزاوية في نظرية ماركس الاقتصادية” (1).

بالإضافة الى إدخال مفهوم ” علاقة بين الناس” وفائض القيمة في تحليل النظام الاقتصادي البرجوازي، اكتشف ماركس قوانين حركة وتراكم راس المال الاجتماعي ونظرية الأزمة وغيرها وأوضح ضمن أمور معقدة كثيرة كيفية إعادة إنتاج راس المال الثابت ضمن عملية إعادة إنتاج الرأسمال الاجتماعي ودورها في التحليل الاقتصادي وربط المراحل التاريخية على أساسها. هذه كلها مسائل مهمة في أبحاث ماركس بصدد موقع النظام الرأسمالي العابر في العملية التاريخية وقوانين حركة هذا المجتمع الانتقالي وطابعه الاستغلالي.

احمد المرزوق: لا نخوض في التفاصيل لكن أود أن أسألك عن (السحر) الذي يمتلكه كتاب رأس المال بحيث ان كل ازمه تواجه الرأسمالية العالمية نجد الإقبال على شراء هذا الكتاب وكأنه الكتاب الوحيد الذي استطاع فعلا ان يفسر أو أن يتنبأ بان الرأسمالية في ازمه دائمة؟

مؤيد احمد: باعتقادي إن تفاقم تناقضات الوضع الاجتماعي يقف وراء الإقبال على قراءة ماركس. الاحتجاجات الاجتماعية في تصاعد في أكثرية بلدان العالم، الناس تريد ان تدرك ما هو الموضوع؟ وماذا يجري؟ وفي اي وسط تعيش؟ لماذا الأزمات الاقتصادية؟ الخ. هناك دافع لديهم بان يذهبوا ويقرؤوا ماركس، لان ماركس هو الذي انتقد النظام الرأسمالي وقال ان هذا النظام يخلق أزماته المتكررة، وهو الذي اكتشف قانون ميل معدل الربح للانخفاض واعتبره سبب الأزمات المتكررة للرأسمالية.  وهو الذي أكد على ان الرأسمالية نفسها تحمل تناقضات وبيّن سمات الحركة التي تخلق هذه الأزمات وغيرها من المسائل المهمة. هذه كلها أمور علمية وجذابه بحد ذاتها للناس المقبلين على قراءة ماركس.

احمد المرزوق: اذا نستطيع أن نقول إن راهنيه كارل ماركس لازالت قوية ومتجددة واكثر قوة من السابق على اعتبار ان الرأسمالية كل ما طال عمرها اكثر تتوحش اكثر.

مؤيد احمد: بالتأكيد راهنيه ماركس “قوية ومتجددة” بسبب تفاقم تناقضات الرأسمالية المستمر وتوحشها المتزايد. ان النظام الرأسمالي المعاصر يمر بمرحلة الانحلال، مرحلة التزايد المخيف لرقعة الفقر والبطالة والبؤس الاقتصادي للمليارات من البشر، مرحلة سيادة الرجعية السياسية البرجوازية الكاملة والعسكرتاريا والحروب وسد الطريق أمام أي تحسين في حياة الجماهير في بلدان عديدة. راهنيه ماركس تكمن هنا. ومن هنا تأتي شتى أشكال مساعي البرجوازية لإسقاط هذا السلاح من أيدي العمال والمفقرين والكادحين.

كم حاولوا ان يشوهوا ماركس ولكن لم ينجحوا. ان مدافعي النظام الرأسمالي ومختلف متحدثيه شنوا حملات واسعة ومتنوعة، ولا تزال، بحق ماركس والأسماء الكبيرة في الحركة الشيوعية من انجلز الى لينين وتروتسكي وروزا وغيرهم. لكنهم   فشلوا، ومن ضمنهم الدوائر الأكاديمية البرجوازية العالمية، في المس بمكانة ماركس حتى في أوج أيام الهجوم على الشيوعية بُعيد انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات. ماركس ظل في مكانه العالي ولم يستطيع أحد من هؤلاء البرجوازيين ان يواجهه بشكل علمي ولم يستطيعوا اكتشاف ثغرات في نظامه الانتقادي كي تسعدهم وفشلوا في مواجهته.

احمد المرزوق: ولكن اود السؤال حول قدسية نصوص ماركس، الكثير من الحركات الشيوعية والعمالية في كل العالم جعلت من كتابات ماركس مقدسات وكأنها كتب منزلة. ألا تعتقد إنها أخطاء؟ بعبارة ان ماركس مؤمن بالتطور والديالكتيك وحركة التاريخ وتغير الظروف البشرية، لماذا الإصرار من قبل البعض على ان يضفي صفة القدسية ولو ان البعض لا يسميها قدسية ولكن تبقى طريقة دوغمائية مغلقة للنظر لماركس؟

مؤيد احمد: من يلصق القدسية بماركس ليس صديق ماركس إنما يلحق الأذى به وبنظريته، فهؤلاء ليسوا أناس مدافعين عن ماركس ولا يمثلونه. ان نظرية ماركس تؤكد على ان المعرفة البشرية نسبية في كل مرحلة تاريخية وهو ليس بصدد إصدار الأحكام المطلقة، إنما بصدد دراسة الظروف والشروط المادية لحياة الأنسان والنضال الطبقي الدائر في المجتمع. ان استنتاجات ماركس الأساسية في الواقع هي دليل عمل للنضال الطبقي العمالي في مرحلة تاريخية من الإنتاج الاجتماعي التي هي الرأسمالية. لذا، مادام المجتمع الرأسمالي باقٍ فان ماركس له موضوعيته، والاستخدام الفعلي لنظريته في هذا المجتمع يظل ضروريا. ولكن هذا التصور لنظرية ماركس لا علاقة له بتقديس نصوص ماركس او إضفاء صفة القدسية عليها.

ان الماركسية الحية المعاصرة ليس كلام وألفاظ إنما هي مرتبطة بالرد على معضلات العهد الحالي ومسائل الصراع الطبقي العمالي المعاصر، فلا يمكن التهرب من هذا الواقع بالاستنجاد بالنصوص وإضفاء صفة القدسية على كل كلمة قالها ماركس. إننا نتحدث عن موضوعية نظرية ومنهج ماركس تجاه العهد الحالي والشيوعيون البروليتاريون مطالبون باستخدامها الحي وليس إعادة تكرار النصوص.

احمد المرزوق: هو لا أحد ينكر موضوعية ومنهجية وعلمية أطروحاته، ولكن النظر له كنص مقدس وان تشتهر بجمل وعبارات قالها ماركس في 1840 على سبيل المثال والالتزام بالنصية بهذه الحرفية فيها شيء من المبالغة والدوغمائية.

مؤيد احمد: صحيح، المبالغات هي تقليل من شأن ماركس ونستطيع ان نقول بان تقديس نص ماركس والمبالغة والدوغمائية بصدده يستهدف استخدام ماركس لأغراض أخرى معاكسة لمصالح الطبقة العاملة وقضية الاشتراكية. ان الناس الواقعيين الذين يحتاجون الى ماركس لا يقدسونه، ان البروليتاريا لا تحتاج الى تقديس ماركس ونصوصه وصنع شيء مقدس من تلك النصوص.  كان ماركس انسانا شيوعيا بروليتاريا، انتقد النظام الرأسمالي واتى بالنظرية الثورية كي تكون أداة النضال بيد الطبقة العاملة، وان هذه الأداة معرضة يوميا وفي كل لحظة للتشويه حيث تريد البرجوازية إسقاطها من يد البروليتاريا. ان المجموعات التي تقدس ماركس هي ضمن القائمة الطويلة والعريضة للتيارات البورجوازية الفكرية والسياسية التي تعمل على تفريغ الماركسية من محتواها بإسم الدفاع عن الماركسية وماركس.

احمد المرزوق: ما أهمية الحزب بالنسبة لماركس وللطبقة العاملة وكيف أصر ماركس على الاشتراك بأحزاب او أمميات او ما شاكل من هذه المسميات لأنه من دون حزب لا يمكن ان تغير من الواقع شيئا؟

مؤيد احمد: من اهم المسائل السياسية التي تعرضت للتزييف والتحريف وعملت مختلف الأطراف البرجوازية من أجل تشويهها، هي مسألة الحزب ووجهة نظر ماركس حولها، وهذا امر واقع وحدث ذلك على طول التاريخ منذ ظهور التيار الماركسي في الحركة البروليتارية.

كان ماركس ينظر الى الحزب ضمن نظام انتقاداته ومنظومته الفكرية والسياسية تجاه العالم ونظريته الثورية، ومن منطلق الاخذ بنظر الاعتبار ارتباط الحزب الوثيق بالصراع الطبقي. من المعلوم، انه يتحدث عن حزب عمالي، حزب بروليتاري، وفي البيان الشيوعي، تحدث ماركس وانجلز بشكل صريح وواضح عن ذلك وعما يميز “الشيوعيون عن الأحزاب العمالية الأخرى”. (2) حدد البيان الشيوعي نقطتين بخصوص هذا التمايز، وهي انه في جميع مراحل تطور الحركة البروليتارية يمثل الشيوعيون مصالح الحركة ككل وهدفها النهائي، وفي صراع البروليتاريا في كل البلدان يدافعون عن المصالح الأممية لنضال الطبقة العاملة. أي كون الشيوعيون هم أمميين ومناضلين اشتراكيين وهذا ما يميزهم عن بقية الأحزاب العمالية.

كما، ويؤكد البيان الشيوعي على أن “هدف الشيوعيين هو تنظيم البروليتاريين في طبقة وهدم سيادة البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية”. إن تبني نظرية النشاط السياسي للطبقة العاملة والنشاط الحزبي وعلاقتهما بتنظيم البروليتاريا كطبقة يشكل مفاهيم جوهرية في نظرية ماركس حول الحزب الشيوعي البروليتاري. ونرى ذلك عمليا في نمط وأسلوب بناء الحزب ونظرات ماركس وانجلز حوله منذ “عصبة الشيوعيين” (1847-1852) وبصورة أكثر وضوحا في الأممية الأولى (1864-1872) و”الاشتراكية الديمقراطية” في ألمانيا وفرنسا وغيرهما من البلدان ومن ثم الاستمرار على نفس المنهج من قبل انجلز في الأممية الثانية.

ماركس وانجلز، كانا يدافعان عن تبنى الحزب البروليتاري للبرنامج الاشتراكي المستند على نظريتهم الثورية وناضلا من اجل تحقيق ذلك على صعيد الحركة البروليتارية في البلدان المختلفة وطورا هذه النظرية. في كل الأحوال كان ماركس بصدد بناء أحزاب عمالية أممية تتبنى البرنامج الشيوعي وليس أحزابا شيوعية غير عمالية، هذه هي النقطة الأولى فيما يخص نظرات ماركس تجاه موضوع الحزب. أما النقطة الثانية فهي، وحتى في تلك الأيام الأولى، وقوف ماركس وانجلز بالضد من نفوذ جميع المحافل والتيارات السياسية داخل الحركة العمالية التي تبعد العمال عن النشاط السياسي.

هذا، وان البيان الشيوعي ينتقد الأدب المسمى بـ “الأدب الشيوعي والاشتراكي” للطبقات الأخرى، كالإقطاعية والبرجوازية والبرجوازية الصغيرة، الذي كان موجودا آنذاك في ظروف اشتداد التناحر بين البروليتاريا والبرجوازية وظروف تفاقم الصراع الطبقي. انتقد البيان هذا الاتجاه ” الادبي الاشتراكي ” غير البروليتاري ووصفه بـ ” أدب الاشتراكية الرجعية “. أدخل ماركس وانجلس هذا النقد في البيان الشيوعي كجزء من برنامج الشيوعيين ولرسم الخط الفاصل مع اشتراكية الطبقات الأخرى غير البروليتارية في ذلك الوقت. لقد حدد البيان المحتوى الطبقي لهذا “الأدب” ومدافعيه، وانتقده، كما وشخص كيف إن هذا “الأدب” مرتبط بشكل او باخر بمصالح البرجوازية والبرجوازية الصغيرة أو الفئات الأخرى، ووصفه بـ “أدب الاشتراكية الرجعية”. تحت هذا العنوان وصفهم بـ ” الاشتراكية الإقطاعية، اشتراكية البرجوازية الصغيرة، الاشتراكية البرجوازية أو المحافظة…” وغيرها. كما ويشير البيان الشيوعي كيف إن “الاشتراكية الطوباوية”، بالرغم من كونها في الأصل تمثل تطلعات البروليتاريا في التحرر، تحولت على أيدي المحافل اللاحقة، وفي ظروف نضوج الصراع البروليتاري الطبقي، إلى “أدب” غير مرتبط بالعمال بحيث أصبح في خانة “أدب الاشتراكية الرجعية”.

ان ماركس وانجلز يتحدثان عن بناء الحزب البروليتاري الشيوعي في ظروف تطور الصراع الطبقي والصراع الاجتماعي الموجود فيما بين طبقات المجتمعات الرأسمالية آنذاك. ان حديث ماركس عن بناء هذا الحزب البروليتاري الشيوعي الأممي جزء من مجمل نظام انتقاده ونظريته الثورية وغير منفصل عن النقد الطبقي البروليتاري للنظام الرأسمالي، وعن فلسفته المادية التاريخية، ونقد الاقتصاد السياسي البرجوازي، الاشتراكية والتكتيك السياسي. غير ان كل هذه الأمور البديهية تعرضت على مر التاريخ لتشويهات واسعة ومتنوعة والى الان نحن نعيش لحظات هذه التشويهات.

احمد المرزوق: من ملاحظات روزا لوكسمبورغ على لينين كانت تخوفها من ان يتحول الحزب الشيوعي الذي سيأتي إلى أداة بالضد من الطبقة العاملة، أليس كذلك؟

مؤيد احمد: هذا موضوع خاص، إذ إن التحولات التي طرأت على الحركة البروليتارية وأحزابها يحتاج إلى بحث مستقل وعلى حدة. على أية حال، وبقدر تعلق الموضوع بالطابع الطبقي العمالي لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي فان هذا الحزب كان منذ البدء مرتبطا بأوضاع الإضرابات العمالية في سان بطرسبورغ عام 1896 والتي انتشرت فيما بعد في عموم روسيا.

ان الاشتراكية الديمقراطية في روسيا كانت ومنذ البداية مندمجة بالحركة العمالية أي إنهما شكلا أجزاء حركة واحدة. كما وفي المراحل المختلفة اللاحقة ظل الجناح البلشفي، الذي كان يقوده لينين، حزب عمالي، حزب بروليتاري مسلح بالماركسية ويجدد نفسه باستمرار، وفي خضم النضال الطبقي يُسلح نفسه بأفكار وسياسات اشتراكية ثورية وبالأخص خلال حياة لينين.

لا شك، ان البلشفية بمثابة تيار حزبي عمالي من أكثر التيارات اهتماما وتمسكا بالنظرية الثورية لماركس وتطبيقها الحي في الصراع الطبقي الجاري في زمنهم. لقد تمسكت البلشفية بالماركسية وبالنظرية طوال تلك الفترة بوصفها حزبا بروليتاريا اجتماعيا لا تيارا حزبيا خارج هذه الطبقة. وأما بصدد التحولات التي حصلت لاحقا فهذا موضوع آخر.

فيما يخص “ملاحظات روزا لوكسمبورغ على لينين”، صحيح كانت لها انتقادات   وبالأخص ملاحظاتها على فقرة النظام الداخلي لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي الخاص بتعريف الأعضاء والتي صاغها لينين وقدمها للمؤتمر الثاني لهذا الحزب.  كانت هي كذلك تعبر عن تخوفها من عزلة الحزب عن جماهير العمال وتنامي “البيروقراطية” وغيرها، هذا عدا ملاحظاتها الأخرى حول إجراءات البلاشفة بعيد ثورة 1917.

غير ان الجوهري في “ملاحظات” روزا لوكسمبورغ كانت تلك الموجهة بالأساس للبيروقراطية في القيادة الرسمية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وانتقاداتها ضد الخط والتيار الانتهازي والإصلاحي وتقديس البرلمانية وغيرها داخل هذا الحزب. آخذين كل ذلك بنظر الاعتبار، فإن انتقادات روزا لوكسمبورغ لم تكن أحادية الجانب إنما انتقادات حزبية وطبقية، إنها كانت ثورية ومقتنعة بالحزب البروليتاري الثوري. إنها أسست مع رفاقها منظمة سبارتاكوس ومن ثم الحزب الشيوعي الألماني وكانت اشتراكية ثورية تنظم وتقود وتناضل في حزب بروليتاري اجتماعي ثوري وقضت عمرها تناضل على هذا المسار وكانت انتقاداتها وبمعزل عن صحتها او عدمها، تنطلق من هذا الموقع.

احمد المرزوق: يقودنا هذا السؤال الى وجود أحزاب يسارية قامت بثورات وأثرت على مناطق كبيرة من العالم في مرحلة تاريخية وأكثر من نصف الكرة الأرضية تحول الى اليسار، لكن لماذا فشلت هذه الأحزاب على الرغم من إنها مؤمنة بماركس ومؤمنة بالصراع الطبقي ومؤمنة بان الصراع مع الرأسمالي الى حين يزول ولماذا وصلت إلى هذه المرحلة؟

مؤيد احمد: لازال هذا الصراع ضد الرأسمالية موجود ومفتوح على صعيد العالم. براي أحد اهم هذه الثورات التي يجب ان نفهم سبب إخفاقها وعدم تحقيق أهدافها هي الثورة البروليتارية في روسيا. لان تلك الثورة وتطوراتها اللاحقة وما لحقت بها من إخفاقات، أثرت سلبا على مصير الثورات والحركات الثورية في العالم بأكمله.

لذا وبقدر تعلق الأمر بالثورة البروليتارية في روسيا، فان البروليتاريا في هذا البلد استطاعت ان تقوم بالثورة والطبقة العاملة والبلاشفة أخذت السلطة بأيديها في أكتوبر 1917. إنها ظلت لسنوات تدافع عن نفسها بوجه الثورة المضادة الداخلية والتدخل الإمبريالي الخارجي ولم تتوفر الفرصة أثناء حياة لينين والسنوات الأولى من عمر الثورة إنجاز الثورة الاقتصادية وبناء نظام اشتراكي أي إلغاء العمل المأجور وجعل وسائل الإنتاج ملكية اجتماعية. لذا، وتدريجيا، تراجع دور المجالس العمالية والسلطة البروليتارية وحل محلها الستالينية وجرائمها البشعة.

إن ما تحقق على ارض الواقع وعلى يد ستالين لم يكن نظاما اشتراكيا إنما رأسمالية الدولة والنمط الاقتصادي التصنيعي البرجوازي مبررا ذلك ببناء “الاشتراكية في بلد واحد” وبآفاق الفكر القومي الروسي البرجوازي لتصنيع البلاد. لقد اخضع ستالين الحركة الاشتراكية في بقاع العالم المختلفة لمتطلبات هذه الحركة التصنيعية القومية وهذا التحول الاقتصادي والسياسي الذي صار في الاتحاد السوفيتي، وإعادة انتاجها. أصبحت الستالينية هي السائدة وهي ترتكب الجرائم والمجازر الجماعية والتجويع لتنفيذ سياساتها. لم يبق أحد من قادة وصناع الثورة البلشفية والبروليتارية في أكتوبر 1917 حيا اذ صفاهم ستالين وأعدمهم او زج بهم في السجون والمعتقلات. هذه ليست فقط لا تمت للاشتراكية بصلة على الأطلاق، إنما هي بناء نظام سياسي دموي واقتصاد رأسمالية الدولة وخنق الثورة البروليتارية والبلشفية باسم نفس هذه الثورة.

إن إخفاقات هذه الثورة وتأثيراتها على مسار الثورة في العالم محل أبحاث ودراسات كثيرة. لا زلنا بحاجة إلى المزيد من التمحيص لهذه التجربة واخذ الدروس منها للحركة الاشتراكية العالمية المعاصرة.

 

احمد المرزوق: ألا تعتقد إن الستالينية والتجارب الشيوعية الموجودة في البلدان تأسست حسب النظرية الماركسية للدولة والتي تقول ان الدولة هي اداة السيطرة للطبقة العاملة، وكيف ان هذه القوى التي تسيطر على الاتحاد السوفيتي بقت محافظة على هيكل الدولة؟ هل بالإمكان ان تتخلى عن الدولة في مرحلة تاريخية تواجه عدوا كبيرا والذي هو الرأسمالية؟

مؤيد احمد: هناك في الأدب الماركسي عموما تأكيدات على ضرورة استمرار الدولة لفترة انتقالية، وماركس أكد على هذا وأشار الى ضرورة “دكتاتورية البروليتاريا” كمرحلة معينة انتقالية للإقدام على إلغاء الملكية الخاصة وبناء النظام الاشتراكي. في المرحلة الثورية ومرحلة الانتقال إلى الشيوعية تحتاج البروليتاريا إلى الدولة حيث تساعدها، أولا، ان تقمع المقاومة الرجعية للبرجوازية التي تريد ان تعيد سيطرتها، وثانيا، كي تقدم على بناء النظام الاشتراكي.

غير إن المفهوم الأساسي في الاشتراكية والنظرية الماركسية للدولة هو إن الدولة يجب أن لا تبقى والدولة البروليتارية ومع قيامها بـ “حيازة وسائل الإنتاج باسم المجتمع” هي في نفس الوقت بهذا العمل تعلن عن فناء نفسها بنفسها حيث تصبح الدولة زائدة و”غير ضرورية في ميدان بعد الآخر” وتضمحل. انجلز في كتابه “الاشتراكية: الطوباوية والعلمية “، يقول: “عندما تصبح الدولة أخيرا الممثل الحقيقي للمجتمع بأكمله فإنها تجعل من نفسها غير ضرورية……مع أول عمل والذي من خلاله تؤسس الدولة نفسها كممثل للمجتمع بأكمله – حيازة وسائل الإنتاج باسم المجتمع- هذا هو في الوقت ذاته آخر عمل مستقل لها كدولة” (3)

ان وسائل الإنتاج في المجتمع الرأسمالي هي بطبيعة الحال اجتماعية، وعملية العمل اجتماعية كذلك، فمع استيلاء البروليتاريا على الدولة ستقوم الأخيرة بإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وترسخ وتنظم الإنتاج الاجتماعي وفق الأسس الاشتراكية وتجري إلغاء الطبقات في هذه العملية وبناء مجتمع شيوعي. ان الثورة البروليتارية وأخذ السلطة بأيدي البروليتاريا هو في الوقت نفسه إلغاء البروليتاريا نفسها بوصفها طبقة.

هذه هي اللوحة العامة لمسار التطورات في الثورة البروليتارية والتي كانت تطرح كذلك في الحركة الاشتراكية الديمقراطية في بداية القرن الماضي، فلم يتحدث أحد في الحركة الماركسية وقبل وقوع ثورة أكتوبر عن استمرار دكتاتورية البروليتاريا لعدة عقود، دع جانبا استمرار النظام الاستبدادي والقمعي لستالين ومن جاء بعده لكل تلك الفترة. إن مفهوم دكتاتورية البروليتاريا يختلف عن الدولة الدكتاتورية والاستبدادية، إن دكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية طبقة وهي لمرحلة انتقالية كي تقدم البروليتاريا على قمع الثورة المضادة والإقدام على بناء الاشتراكية وليست بمعنى إرساء دولة استبدادية أو دولة دكتاتورية ولا يشكل خنق الحريات السياسية أحد أركانها.

ان الحرية المتوفرة في ظل دكتاتورية الطبقة البرجوازية في الدول الغربية يسمونها الديمقراطية، في حين إن دكتاتورية البروليتاريا وبما أن مفهومها يتضمن إلغاء الملكية الخاصة، تعتبر لدى البرجوازية بانها استبداد ودكتاتورية حتى وإن لم تقدم على استخدام العنف أو خنق الحرية السياسية. أما لماذا لم تجرِ الأمور وفق هذه اللوحة العامة فان الأسباب كثيرة ومتنوعة وأولى هذه الأسباب هي إن الصراع الطبقي لخلق عالم جديد لا يجري بدون عقبات وتراجعات وإخفاقات. هذا الإخفاق هو الذي حصل في الاتحاد السوفيتي. غير ان ذلك لا يعني “نهاية التاريخ” حيث ان الاشتراكية هي حركة طبقية واقعية على الأرض فمتى ما توفرت الشروط في بلد ما او عدة بلدان لكسب القوة والاقتدار للأقدام عليها ستجلب مع نفسها عوامل تقدمها إلى الأمام.

العالم ليس كتلة واحدة بدون تناقضات، والرأسمال سائد في كل مكان والطبقة العاملة العالمية والكادحين، بهذه الدرجة او تلك، تعاني من وقع هذه الرأسمالية المعاصرة وتقاومها بأشكال مختلفة وبدون توقف. العمل الأممي والتلاحم بين العمال على الصعيد العالمي أصبح ضروريا ومطلوبا جدا وأية درجة من تحقيق هذا التلاحم سيكون له تأثير مباشر وكبير. فالنضال الاشتراكي مستمر ويجري في خضم هذه الظروف والتناقضات.

فيما يخص التجربة الصينية، إنها في الحقيقة قصة أخرى لان الصين أصلا لم تذهب الى الاشتراكية. ما جرى في الصين، إذا جاز تقليصها في كلمات قليلة، هو بالأساس وقوع ثورة فلاحية قادها ماوتسي تونغ حيث أتى بأفكار لدعم هذه الثورة الفلاحية، وبعد الانتصار قاموا بإجراءات اقتصادية هي بالأساس لغرض إرساء رأسمالية الدولة وأطلقوا عليها اسم الاشتراكية.

ولكن لو نظرنا إلى العالم في نفس فترة وجود الكتلة الشرقية، نرى انه في نفس الوقت الذي كان هناك الاتحاد السوفيتي وتوجد الستالينية ويوجد الصين ودول أخرى في أوروبا الشرقية وغيرها وكلها باسم الاشتراكية، كان هناك صراع مستمر من قبل الطبقة العاملة على الصعيد العالمي. لم يتوقف هذا الصراع ولا لحظة وكان هذا الصراع جزءً من حياة الطبقة العاملة في نفس الدول التي تسمى نفسها بالاشتراكية كذلك.

احمد المرزوق: طيب. اليوم مئات الأحزاب الشيوعية والعمالية في العالم، كل هذه الأحزاب لديها إيمان ورؤيا للتغيير نحو الماركسية والشيوعية، لماذا تفشل هذه الأحزاب من أن تتوحد بالرغم من إنها تمتلك ذات الرؤى؟ أم إن الأوضاع مثلا في أوروبا والاتحاد الأوروبي وغيرها تختلف عن الأوضاع الموجودة اليوم في الشرق الأوسط؟

مؤيد احمد: أولا إن قوة الطبقة العاملة العالمية في عهدنا الراهن من حيث العدد وموقعها الاقتصادي والاجتماعي كبير وهائل بحيث لا تقارن بكل الفترات السابقة في تاريخ الرأسمالية. فالحركة العمالية واعتراضاتها متشعبة ومتنوعة وواسعة للغاية وان البرجوازية تعمل ليل نهار وبمختلف الوسائل لقولبة هذه الاعتراضات في إطار آفاقها ومصالحها الطبقية. تجاه هذه الوقائع، فإن الحركة الشيوعية بمثابة القسم الأممي والاشتراكي للحركة العمالية المعاصرة تعاني من التشتت وتواجه ضغوطاً كبيرة من قبل البرجوازية وهي ليست قوية في الوقت الراهن بشكل يمكنها أن تؤسس أممية جديدة وتقود وتنظم هذه الاعتراضات والتحركات العمالية الشاسعة بالشكل المناسب.

أما “المئات” من الأحزاب والمنظمات التي تدعي الماركسية والشيوعية لفظا وتبدو وكأنها “تمتلك ذات الرؤى” من حيث توجهها الماركسي فهي في الحقيقة ومن حيث الجوهر الطبقي خارج ديناميكية الصراع الطبقي العمالي. رغم انه من الضروري تشخيص كل حالة بمفردها، فهذه الأحزاب عموما جزء من المعضلة وليست حلا لها، ليس هذا فحسب، بل في أكثرية الحالات تعيق تطور الحركة الشيوعية البروليتارية وتنقل نفوذ وسياسة البرجوازية إلى الحركة العمالية والاعتراض الاجتماعي الواسع الدائر في المجتمع. أكيد إن أوضاع البلدان والمناطق المختلفة من العالم تختلف فيما بينها وتطبع خصوصياتها على نقاط القوة والضعف بالنسبة للحركة الشيوعية البروليتارية كذلك.

آخذين كل ذلك بنظر الاعتبار، وكما هو معلوم، فان الشيوعية تلقت ضربات كبيرة جدا، اذ ان تجربة حكم ستالين والاتحاد السوفيتي والصين وكل الكتلة الشرقية استفادت منها البرجوازية العالمية وحولتها الى دعاية لصالحها بان الشيوعية تعني القمع والاستبداد والفقر الاقتصادي.. الخ.  نحن نعيش في عهد لا زالت الحركة الشيوعية العالمية والعمالية بالأساس تتلقى هذه الضربات، ومثلها الأعلى الاشتراكي المتمثل في تحقيق المساواة والحرية للبشرية تحت ضغط هجمات ودعايات مكثفة مضادة من قبل البرجوازية.  باختصار، فان الحركة الاشتراكية والحركة العمالية العالمية تعيش وتمر بهكذا أوضاع ولكن نرى في نفس الوقت، من جهة، حدوث التطورات والأزمات التي تواجهها الرأسمالية العالمية وخاصة في العقد الأخير، ومن جهة أخرى تصاعد اعتراضات الجماهير الهائل والإقبال على الماركسية وعلى التطلعات والقيم الاشتراكية لا يقارن من حيث زخمه وحجمه بالذي كان موجودا في التسعينات من القرن الماضي. نحن نعيش في منعطف تاريخي في الوقت الراهن.

احمد المرزوق: هذه هي التناقضات التي جاءت بها الرأسمالية وهذا التفاوت الطبقي الرهيب في كل العالم والأزمات الاقتصادية المستمرة هي التي تدفع باتجاه التصدي للرأسمالية، لكن تبقى مسؤولية الحزب الشيوعي البروليتاري في كل العالم ان يستقطب الناس وان يستقطب الجماهير وان يزيد من وعي الناس ويجعل منهم أناسا مؤمنين بالثورة على هذا النمط من الإنتاج، كيف نستطيع ان نفعل ذلك؟

مؤيد احمد: هذا سؤال مهم وضروري ولكن ليس هناك جواب جاهز له. بالطبع كل حالة لها خصوصيتها، لكن باعتقادي توجد نقاط أساسية لتشخيص قسم من المشكلة. ان قسما ممن يسمون أنفسهم بالشيوعيين والاشتراكيين ليسوا أصلا حتى يساريين بالمعنى العام للكلمة، إنما أحزاب وتيارات سياسية برجوازية عملا واشتراكيين لفظا. وهم أحزاب النظام البرجوازي وليس لهم صلة لا بالحركة العمالية والشيوعية ولا بقضية التقدم الاجتماعي، بل هم يشكلون عوائق جدية أمام تطور النضال الطبقي العمالي الاشتراكي. وهناك قسم آخر ويشمل كثير من الأحزاب السياسية اليسارية الموجودة تدافع شكلا عن القيم الاشتراكية لكن معزولة عن القاعدة الاجتماعية والطبقية للاشتراكية وبالتالي عمليا يدورون في دائرة الحياة السياسية التي تحددها التيارات والأحزاب البرجوازية. انتقادات هذا القسم من اليسار تتمحور حول الإصلاح أو ترميم هذا أو ذاك الجانب أو إطلاق الجمل الثورية انطلاقا من مواقع هامشية في المجتمع بدون أي ربط بواقع الصراع الطبقي العمالي الحي الجاري وأهدافه النهائية.

ان مفهوم ماركس عن الحزب هو حزب بروليتاري اشتراكي. فوجود هذا الحزب و”استقطاب الناس” حول برنامجه وسياساته التحررية وتطوير النضال الطبقي العمالي والإعداد “للثورة” وغيرها التي جاءت ضمن سؤالك هي أوجه مختلفة رئيسية للمعضلة والمهام التي يواجهها هذا النمط من الحزب والتيار. إن تأسيس وتطوير هذا النوع من الأحزاب، قبل ان نتحدث عما تقوم به، يجري في قلب هذا الصراع الطبقي والاجتماعي الجاري على صعيد العالمي بوجه الرأسمالية ومرتبط بهذا النضال.

الخطوة الأولى والأساسية للتأثير على تطوير النضال الاجتماعي والسياسي الموجود هو بناء أحزاب ضمن هذا الصراع وليس أحزاب سياسية برجوازية وبرجوازية صغيرة خارجه. وعندما نتحدث عن الأحزاب نتحدث عن برنامج وسياسات واستراتيجية وتكتيك سياسي للدفع بهذا النضال الطبقي العمالي والاجتماعي الحي وتنظيمه. لا يخلو العالم من المساعي لتأسيس هذا النمط من الأحزاب وتفعيل دورها في البلدان المختلفة ولا يخلو من المساعي لتوحيد نضالات الطبقة العاملة على صعيد بلدان مختلفة ولكن كل هذه المساعي لم تتحول إلى تشكيل حركة حزبية شيوعية بروليتارية مقتدرة محليا وعالميا في الوقت الراهن.

هناك ومثلما سبق وأكدت عليه، فرق جدي بين حزب سياسي اشتراكي او منظمة اشتراكية يدعي او تدعي الاشتراكية وبين حزب بروليتاري اجتماعي يحمل رؤية اشتراكية وبرنامج اشتراكي، مع أي صعود للتيار البروليتاري الشيوعي، يهتز، عادة، عرش تلك المنظمات السياسية التي تدعي الاشتراكية وينكشف أكثر فأكثر محتواها الطبقي وتحيزها الطبقي غير العمالي.

احمد المرزوق: الا تعتقد بأن السبب الرئيسي لتراجع الحركات العمالية وبعض الأحزاب التي تسمي نفسها شيوعية بحيث إنها أصبحت تحت جناح وتحت إبط الرأسمالية وأصبحت تبرر لها وصارت أحزاب قوميه ووطنيه وغيرها؟

مؤيد احمد: صحيح، هذا كلام دقيق. إن أحد أسباب تراجع الحركة العمالية والشيوعية هو نفوذ آفاق السياسية البرجوازية على الحركة العمالية وجماهير البروليتاريا عبر تلك الأحزاب التي تسمي نفسها بالاشتراكية. ولكن السبب الأساسي هو ضعف التيار الاشتراكي البروليتاري الثوري في الإحلال محل تلك الأحزاب.  لنلقي نظرة على تاريخ هذه التحولات وكيف قامت الأحزاب المسماة بالاشتراكية بدور التيارات البرجوازية في الحركة العمالية.

عندما ننظر إلى تاريخ “الحركة الاشتراكية الديمقراطية” في أوروبا في بدايات القرن الماضي حيث كان الاشتراكيون الديمقراطيون مسيطرين وقوة رئيسة في الحركة العمالية، نرى كيف نما التيار الانتهازي في هذه الحركة العمالية الاشتراكية الديمقراطية آنذاك. في الحقيقة، كانت الاشتراكية الديمقراطية، قبل هذا التحول، ومن حيث الأساس، أحزاب عماليه وبروليتاريه وتبنوا في الأممية الثانية البرنامج الماركسي.

جرى نضال نظري رائع من قبل التيار الثوري داخل الاشتراكية الديمقراطية وصف من القادة البارزين أمثال روزا لكسمبورغ ولينين وتروتسكي وآخرون كثيرون ضد هذا التيار الانتهازي داخل الحركة العمالية الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا. هم قدموا تحليلات عميقة لتبيان الصلة الوثيقة بين الانتهازية وخيانة الاشتراكية الديمقراطية في البلدان المختلفة لقضية الثورة والاشتراكية بالاصطفاف مع برجوازيتها القومية في الحرب العالمية الأولى.

في مقال للينين باسم “مصائر مذهب كارل ماركس التاريخية ” كتبه في آذار 1913 أي قبل الحرب العالمية الأولى بأكثر من سنة يقول ” ان ديالكتيك التاريخ يرتدي شكلا، يجبر معه انتصار الماركسية في حقل النظرية، أعداء الماركسية على التقنع بقناع الماركسية. وقد حاولت الليبرالية، المتهرئة من داخلها، ان تستأنف نشاطها تحت ستار الانتهازية الاشتراكية. وقد فسروا مرحلة إعداد القوى للمعارك الكبيرة بانها العدول عن هذه المعارك ” (4).

ان الكثير من الأحزاب المعاصرة الذين يسمون أنفسهم اشتراكيين، هم في الحقيقة أحزاب برجوازية قومية و”وطنية” وليبرالية في رداء الشيوعية والاشتراكية و”يدافعون” عن الرأسمالية كما أشرت إليه في سؤالك. قسم كبير من هذه الأحزاب يحمون النظام الرأسمالي وسياسات البرجوازية بشكل فاضح وحتى في كثير من الحالات يرتدون قناعا خفيفا للغاية من الماركسية. ففي العهد الراهن، عهد سيطرة الرأسمالية الإمبريالية وموديلها الاقتصادي النيو الليبرالي، عهد التسلح الإمبريالي المهول والمهدد لأمن البشرية في كل مكان، عهد الصراعات الإمبريالية وحروبها وانبثاق قوى وتيارات وأحزاب رجعية برجوازية إرهابية من الإسلاميين والفاشيين والعنصريين والقوميين المتطرفين والطائفيين ودورها الكارثي في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية للمجتمعات، نرى كيف تجري، في الوقت نفسه وبالرغم من هذه الوقائع، عملية أخرى، في قلب هذا العهد وكجزء من مكوناته بوصفها نفي الوضع السائد.

هذه العملية الأخرى تعبر عن نفسها في عهدنا الحالي في الاحتجاجات العمالية ونهوض جماهير البروليتاريا والمفقرين والمضطهدين في بلدان عديدة من العالم بوجه مآسي النظام القائم بأكمله. ان هذا النضال والنهوض الجماهيري بوجه البؤس الاقتصادي والحرمان والبطالة والذي تفرضه الرأسمالية المعاصرة على مليارات من البشر في العالم وبوجه الاضطهاد والتهميش والتمييز السياسي والاجتماعي، تثبت بعد مئات المرات حقيقة أطروحات ماركس بكون التغيير والخلاص من النظام الرأسمالي يتحقق عبر نضالات الطبقة الاجتماعية الأساسية المضطهدة في هذا النظام، أي البروليتاريا الصناعية والفئات والشرائح البروليتارية الأخرى وبكلمة بائعي قوة العمل بمختلف فئاتهم وهم الذين يستطيعون إنهاء الرأسمالية ويُقدمون على “بناء المجتمع الاشتراكي”. لم تستطع كل تلك الأحزاب التي تطلق على نفسها اسم الاشتراكية من احتواء هذه العملية الأخرى وسد الطريق أمام نمو واتساع رقعة الاعتراض الطبقي والاجتماعي والسياسي للجماهير المسحوقة الغفيرة في أنحاء العالم ضد الرأسمالية.

ان المسالة الأساسية هي كيف تؤمن الاستعداد السياسي والتنظيمي والفكري لنضال البروليتاريا المعاصرة كي تكون بإمكانها تحقيق هذا التغيير. ان أحد ظواهر التخلي عن هذه المهمة من قبل من يعتبرون أنفسهم اشتراكيين وشيوعيين لفظا، هو تعريف “السياسة” و”الاشتراكية” وكأنهما غير طبقيتين. في الحقيقة وكما يقول لينين في نفس المقال ليست هناك ” سياسة لا طبقية واشتراكية لا طبقية”. إن الخلاص من الوضع الراهن هو نهوض البروليتاريا المعاصرة وأحزابها والإعداد للثورة الاشتراكية البروليتارية.

ان مواجهة الدعايات المسيئة الهائلة ضد الشيوعية والآمال والأهداف التحررية والقيام بالعمل الثوري للإعداد للثورة في عهد الركود وبهدف إنجاحها لحظة وقوع الثورة هو العمل السياسي الذي نحتاجه الان للمضي قدما في تغيير الوضع القائم.  فلا البرجوازية تقف مكتوفة الأيدي تجاه البروليتاريا ولا الأحزاب والمنظمات التي تسمي نفسها بالاشتراكية ولا الانتلجىنسيا المنحازة مع البرجوازية، ان المهمة الأساسية هي بناء هذا الحزب البروليتاري المرتبط بنضالات هذه الطبقة الاجتماعية الكبيرة.

احمد المرزوق: نعم السؤال لك لوجودك في منظمه البديل الشيوعي في العراق، ما هو برنامجكم ودوركم لكي تفعلون عمل او تعيدون للماركسية منهجيتها وعلميتها وثوريتها وقدرتها على اكتساب الجمهور وقدرتها على المساهمة لتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلد؟

مؤيد احمد: ما قدمناه لحد الان في هذا الحوار هو الذي نقوله بشكل عام ونتبناه. هناك في البيان التأسيسي لمنظمه البديل الشيوعي فقره أكدنا فيها على إيجاد تيار ماركسي قوي في هذا المجتمع، اذ نعتقد بان الماركسية تعاني من التشويه بفعل جملة من الأسباب ومنها دور التيارات الأخرى التي تعمل باسمها لفظا. فضعف التيار الماركسي في لعب دوره في الساحة السياسية والفكرية في العراق ظاهر للعيان.

احدى المهام الأساسية بالنسبة لنا هو ان نرد على المعضلات التي تواجه المجتمع والحركة الشيوعية والعمالية في العراق والمنطقة من منطلق ماركسي ومنطلق نظرية النضال الطبقي الثوري. ان “السياسة” و”الاشتراكية” بالنسبة لنا طبقية، وقد عدنا لماركس ولأصل التعريف الطبقي للاشتراكية. نحن كتيار وتنظيم بروليتاري اشتراكي بصدد بناء الاشتراكية ولدينا قناعه تامه بان الاشتراكية بدون الحضور السياسي للطبقة العاملة غير ممكنة التحقيق. كما ولدينا قناعة تامة انه بدون صعود التيار البروليتاري الاشتراكي وتفعيل دور الطبقة العاملة السياسي ورفع راية الاشتراكية كقوة مستقلة في خضم الصراع الطبقي العمالي والصراع الاجتماعي والسياسي لتحقيق التغييرات العاجلة والمباشرة، لا يمكن الخلاص من الأوضاع التي نعيشها وتبقى تتكرر مره أخرى وبشكل أسوء.

لو ألقينا نظرة على تاريخ الصراعات السياسية والاجتماعية في العراق على الأقل في الستينات من القرن الماضي فصاعدا ولحد هذه اللحظة، نرى عدم وجود الأمان والاستقرار والحياة المناسبة لأغلبية السكان، بل مأساة بعد مأساة، حرب بعد حرب وهذا هو السائد. للخروج من هذه الحلقة المأسوية المتكررة ليس هناك طريق غير طريق بناء الحزب البروليتاري الاجتماعي الذي يرفع راية الاشتراكية ويحولها إلى سياسات في مواجهة الطبقات الأخرى وفي مواجهة التيارات والاتجاهات التي تتحدث باسم الاشتراكية والتي بالأساس تعيق النضال الطبقي للعمال والكادحين والتحررين في المجتمع.

احمد المرزوق: سؤال أخير وسط هذه التناقضات التي تعيشها الأنظمة الرأسمالية في كل العالم وسط هذه الحروب الكثيرة التي تخلقها الرأسمالية من اجل استمراريتها وديمومتها في ظل وجود صراع طبقي رهيب وفقر نصف سكان الكرة الأرضية وحيث أن شرائح كبيرة منهم يعيشون في العشوائيات، إلى أي مدى نحن بحاجة اليوم إلى ماركس؟

مؤيد احمد: أكثر من أي وقت اخر نحن نحتاج إلى ماركس الحي وليس فقط نصوص كارل ماركس، نحتاج إلى ماركس كمنهج وكنظرية ثورية وكل تعاليمه الثورية والعلمية.

5 أيار 2019

ملاحظة: تم إجراء هذا الحوار عبر إذاعة المساواة يوم الخامس من أيار ٢٠١٩، ونظرا لأهمية الموضوع وضرورة الإسهاب في تناول البحث، تم تهيئته وإعداده للنشر مع إجراء العديد من التعديلات والإضافات الضرورية الواجب توفرها في لقاء كهذا حين يُعد للتحرير، علما بأن الأسئلة بقت على حالها كما هي، لذا وجب التوضيح.

النقل من الفيديو: هديل وضاح –   تدقيق النقل: قاسم علي فنجان

التدقيق اللغوي: عبداللـه صالح 

(1) لينين- مصادر الماركسية الثلاثة واقسماها المكونة الثلاثة -المختارات في 10 مجلدات، المجلد 5 موسكو- دار التقدم ص٣٦

(2) مقتبسات من البيان الشيوعي: “إن الشيوعيين لا يؤلفون حزبا خاصا معارضا لأحزاب العمال الأخرى، وليست لهم مصالح منفصلة عن مصالح البروليتاريا بمجموعها. وهم لا يدعون الى مبادئ خاصة يريدون تكييف الحركة البروليتارية في قالبها. إن الشيوعيين لا يتميزون عن بقية الأحزاب البروليتارية الا في نقطتين هما:

– في النضالات التي يقوم بها البروليتاريون من مختلف الأمم، يضع الشيوعيون في المقدمة المصالح العامة لمجموع البروليتاريا ويذودون عنها، مستقلة عن كل قوميةindependently of all nationality

– في مختلف مراحل التطور التي يمر بها النضال بين البروليتاريين والبرجوازيين يمثل الشيوعيون دائما وفي كل مكان everywhere مصالح الحركة بكاملها. فالشيوعيون هم اذن، من الناحية العملية احزم فريق من أحزاب العمال في جميع البلدان … وهم من الوجهة النظرية، يتميزون عن بقية البروليتاريين بادراك واضح لظروف حركة البروليتاريا وسيرها ونتائجها العامة.

أما هدف الشيوعيين المباشر فهو الهدف نفسه الذي ترمي إليه جميع الأحزاب البروليتارية الأخرى، أي: تنظيم البروليتاريين في طبقة وهدم سيادة البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية”.

(3) F. Engels   Socialism: Utopian and Scientific -Progress Publishers Moscow 1968 Page 65

(4)    https://www.marxists.org/arabic/archive/lenin/1913/doctrine_km.htm

 

عن Albadeel Alsheoi

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حول أوضاع المرأة الريفية في العراق

اقبال صلال من المعروف إن الزراعة هي المحرك الأساسي في المجتمعات الريفية، ومن المعروف ايضا إن ...

الثامن من اَذار 2024، تحديات وافاق النضال النسوي التحرري في المنطقة

يمر النظام الراسمالي حاليا باحدى اكبر واعمق ازماته التاريخية. ويبدو ان احدى بؤر هذه الازمة ...

حول حركة سلم الرواتب

جلال الصباغ    "الصورة لا تزال غامضة، لكن يجب في كافة الأحوال تعديل سلّم الرواتب القليلة ...

ما بين أجور نائب وعامل

طارق فتحي نشرت بعض وسائل الاعلام التكلفة الاجمالية لمجلس النواب في العراق، والمكون من 325 ...

إقليم كوردستان، إفلاس السلطة وعجز الحركات الاحتجاجية

نادر عبدالحمید إن مزيجا من إفلاس السلطة وعجز الحركات الاحتجاجية لفرض التراجع على هذه السلطة ...