في نقد التصورات المثالية

طارق فتحي

(التاريخ لا يفعل شيئا، انه الانسان، الحقيقي الحي، هو الذي يفعل كل شيء – ماركس ) ..

كثيرة هي التصورات التي يلقيها البعض من على مواقع التواصل الاجتماعي، او نسمعها من داخل الحلقات النقاشية التي تجري داخل أوساط المثقفين؛ مشكلة هذه التصورات انها ترسخت لدى قسم واسع من الناس، وقد لمسناها أيام الانتفاضة الى حد ما، فقد عرف مروجوها كيف يدخلوها بعقول بعض “المثقفين الشباب” وجعلها من البديهيات، بسبب ما تملكه من جاذبية وسهولة في الطرح؛ فمثلا يقول الكثيرون ان مشكلة المجتمع في العراق تكمن في “تغيير العقلية”، أي ان السبب في تراجع الواقع الاجتماعي هو في تبني “عقلية” اجتماعية من نوع محدد، وفي تبديل وتغيير هذه “العقلية” سيكون الحل لجميع المعضلات، او ان المشكلة في “التنوير” او ” الحداثة”، فنحن لم نمارس الفكر التنويري او لم نصل لمرحلة الحداثة، الخ من هذه التصورات التي مٌلئت بها مواقع التواصل الاجتماعي وقشلة المتنبي؛ لكننا سوف لن نتوقف عند هذه التصورات، بسبب ضيق مجالها الاجتماعي، فهي محصورة بعدد محدود جدا من المثقفين، وتأثيراتها الاجتماعية تكاد تكون معدومة.

لكن أكثر طرح لاقى ويلاقي قبولا داخل الأوساط الثقافية، وهو اليوم يشكل علامة فارقة في النقاشات والجدالات، هو ذلك الطرح المتداول والذي يقول ان “الفترة الملكية من تاريخ العراق السياسي هي الفترة الذهبية، وان التغيير الذي حدث عام 1958 كان هو الخطأ الأكبر؛ وان المأسي والمعاناة التي يمر بها المجتمع اليوم هي نتيجة ذلك الخطأ”.

“مكر اللغة الايدولوجية كله في ملمسها المخملي” هذا ما كان يقوله وبشكل جداً صائب المفكر مهدي عامل، فهذه الطروحات “تجوهر” وبشكل ناعم ولطيف فترة تاريخية محددة، وتجعل الوقوف عندها هو الشرط اللازم لسعادة الناس؛ وسدنة هذا الطرح دائما ما يستشهدون بمشاريع “الملك” او “الوصي” او “الباشا”، ويتحدثون بطريقة عالم الاجتماع “علي الوردي” الشعبية عن تلك الفترة، وكيف كان “الملك او الباشا” يتعامل مع الناس وكيف كانوا يديرون دفة الأمور؛ ويتحرك ممثلو هذا التصور المثالي بميدان (“الروح الصرف” ويجعلون من هذا الوهم القوة المحركة للتاريخ) كما يقول ماركس؛ ويسعون جهد الإمكان لتكريس وترسيخ هذا الفهم عند الناس بشتى الوسائل، وليس اخرها ما طرحه احد مقدمي البرامج التلفزيونية، الذي قال ان “الشروع بالهاوية بدا مع 1958″، وقد احدث ضجة واسعة بين المدافعين عن “الزعيم” وبين الذين يحنون الى فترة “الملك-الباشا”.

إذا ما رجعنا الى الجذور الاجتماعية والطبقية لهذا التصورات، فلا تصيبنا الدهشة إذا ما عرفنا ان اغلب مؤيدي الفترة الملكية هم من أبناء المدن، أي الذين سكنوا بغداد وبعض المدن الأخرى أيام الاحتلال البريطاني، فهؤلاء لم يكونوا يعانون مثلما كان يعاني المجتمع الريفي؛ اما الطرف الاخر الذي يحن الى الفترة الملكية فهم “شيوخ العشائر” الذين كانت لهم الأرض وما عليها، فقد كانت “الأرض هي محور المشيخة في ظل نظام الحكم الملكي” كما يقول حنا بطاطو، وقد وهبتها الحقبة الملكية لهم وأجزلت العطاء.

انتهت حقبة الدولة العثمانية المريرة والمتخلفة، بسطت بريطانيا سلطتها المطلقة على العراق بعد احتلاله، بدأت في التشكل مرحلة جديدة، توضحت أكثر وأكثر ملامح النمط الاقطاعي، خصوصا بعد الدعم الكامل الذي حصل عليه شيوخ العشائر من قبل البريطانيين والملوك؛ كانت هناك حركة فاعلة للمجتمع، انه مستعد للتحولات.

صدرت قوانين ما تسمى ب “تسوية الأراضي” وكالتالي: قانون رقم 50 لسنة 1932، وقانون رقم 29 لسنة 1938، المعدل بقانون 36 لسنة 1952، قانون اللزمة رقم 51 لسنة 1932؛ هذه القوانين كانت الحد الفاصل لتشكل النمط الاقطاعي بشكله القانوني الرسمي، فقد حسمت قضية ملكية الأرض، وبمقتضى هذه القوانين تم تسجيل الأراضي بأسماء شيوخ العشائر.

تذكر السجلات التاريخية ان شيخ عشيرة الشويلات وعضو مجلس النواب عن لواء المنتفق في الناصرية “موحان الخير الله” وحده فقط وضع يده على أكثر من مليون دونم عام 1948، وهو الذي كانت ملكيته لا تتجاوز ال 60 ألف دونم عام 1919؛ اما في لواء العمارة، الذي يعد اغنى لواء في انتاج الرز، فان هناك ما يقارب الثلاثة ملايين دونم امتلكها 33 شخصا فقط، منهم 29 من شيوخ العشائر “البومحمد، ال زيرج، بني لام”.

انتهى العصر الذي كان فيه الشيخ يمارس الدور “الابوي” بالنسبة لأفراد عشيرته، انتهت علاقات الدم والقرابة وحلت علاقات الإنتاج، صار الشيخ مالكا لأداة انتاج كبيرة “الأرض”، تدر عليه ريعا وفيرا، صار له ((حوشية، وطوافي، وشحنية، وعبيد، وسراكيل))”1″؛ يلبون رغباته وينفذون أوامره، صارت له سلطة مطلقة على الفلاحين البؤساء، كانت بريطانيا والملوك يسهلون للشيوخ كل شيء، فالعراق بدأ يرتبط بالسوق العالمي، وهو ما يحتاج لسلطة قوية تديم الإنتاج الزراعي، وقد وجد البريطانيون هذه السلطة متمثلة بشكل جلي بـ “شيخ العشيرة”.

في عام 1933 أصدر مجلس الاعيان قانون رقم 38 او ما يسمى بقانون “حقوق وواجبات الفلاحين” الذي منع بموجبه الفلاحون من مغادرة الأرض او المقاطعة، ومنع تشغيلهم من أي شخص بدون مستند من مالك الأرض، هذا القانون عزز بشكل تام من سلطة الشيخ، وجعله يتحكم بحياة الفلاح، فقد اغلق باب الهجرة من الريف، وبذلك تحول الفلاح الى “مستعبد”. كتب لينين يقول “ان الحق هو إرادة الطبقة المسيطرة المرفوعة الى قانون”.

كانت حياة الفلاحين قاسية جدا؛ القهر والاذلال، الجوع والعوز، المرض والموت؛ كلها كانت سمات حياتهم ومعيشتهم؛ الشيء الأكثر بؤسا هو انهم لم يشكلوا قوة طبقية بمواجهة طبقة الملاك الاقطاعيين من شيوخ العشائر والسادة، لهذا لم يتطور الصراع الطبقي في الريف مثلما حصل في المدن، وفضل الفلاحون الهجرة الى المدن، لتفتح صفحة جديدة من المعاناة.

اغلب الطروحات التي تتناول هجرة الفلاحين تنطلق من ذاتية خالصة لهؤلاء الفلاحين، أي انهم “الفلاحين” فضلوا ان يهاجروا الى المدن بمحض ارادتهم؛ والطرح الاخر “الماشي شعبيا” هو ان عبد الكريم قاسم هو من فضل بقائهم وعزز من الهجرة وقواها بشكل ملفت بأنشائه المدن لهم، واعطائهم المساكن؛ هذه الطروحات هي السائدة عند الكثير من المثقفين وداخل الأوساط الاجتماعية، وهي التي ستقود الى الطرح برفض التغيير الذي حدث عام 1958، وتحميله لكل المأسي في العراق.

(اننا ننطلق من الناس من حياتهم الواقعية والعملية، ومنها نتمثل ونتصور الانعكاسات والاثار الأيديولوجية لهذه العملية الحياتية) ماركس..

شيئا فشيئا بدأت بالتدهور العلاقة بين الشيخ وافراد عشيرته، فالشيخ انفصل أكثر وأكثر عنهم، وبدأت اشكال علاقات جديدة، صارت حياة الفلاح وأسرته بيد الشيخ، يقوده الى الغزوات والاستيلاء على المزيد من الأراضي، ثم يزرع هذه الأراضي، وكل ريعها يرجع للشيخ، حياة بائسة جدا؛ امام واقع كهذا، كان لزاما وضرورة ان يبحث-الفلاح- له عن مخرج، كونه لا يستطيع مواجهة قوة الشيخ المدعوم من الملك والانكليز، ولا يستطيع ان يكون قوة طبقية منظمة، لأنه لا يملك الأداة السياسية “الحزب”، وقبل كل هذا شغف حياته المعيشية المزرية جدا، والتي لم تدعه يصنع تاريخه.

كانت الهجرة تتخذ شكلا فرديا في بداية القرن العشرين، لهذا لم تؤثر على الإنتاج الزراعي، ولم تشكل خطرا على الشيوخ، الا انها بدأت تأخذ طابعا جماعيا، وهو ما دعا الى ضرورة التحرك “قانونيا” و “برلمانيا” للحد من هذه الهجرات، وتم تقييد الفلاحين من خلال قانون لا يسمح بمغادرة الأرض الا بعد ان يوفي الفلاح كل ديونه للشيخ، وهو ما كان مستحيلا لأغلب الفلاحين.

لكن ما هو التاريخ؟ انه (كل فرد يقصد أهدافه الموضوعة عن وعي وأدراك، اما مجموع هذه الكثرة من المساعي فهذا هو التاريخ) مثلما يجيب انجلس، فرغم التحديدات والتقيدات الصارمة، الا ان الفلاحين صمموا وتحت الضغط المعيشي، على المغادرة ساعين الى اكتشاف مناطق أخرى، تكفل لهم حياة كريمة.

حسب إحصاء عام 1957 الرسمي، فأن عدد الأشخاص الذين كانوا يعيشون في بغداد ولكنهم ولدوا خارجها بلغ 378996 شخصا، ومن أصل هؤلاء كان 114708 قد جاءوا من مدينة العمارة، كما يذكر ذلك حنا بطاطو في سفره؛ ويمضي بطاطو بالقول انه وخلال الفترة من 1947-1957 هاجر الى بغداد وحدها ما لا يقل عن 205765 نسمة، أي قبل عبد الكريم قاسم واحداث 1958.

كانت مدينة بغداد الجهة المفضلة للفلاحين، وهي كمدينة كانت تريد يد عاملة رخيصة، فهي في حالة نمو؛ رأس مال ينمو، اذن يتمركز السكان فيها، انها القطب المضاد للريف.

سكن الفلاحون القادمون من الريف في بقعة من بغداد كانت مدفن للنفايات والفضلات البشرية والحيوانية، فهي الوحيدة المجانية، بنوا صرائفهم عليها، كان هناك 16413 ألف صريفة عام 1956.

والصريفة هي بناء سكني من القصب طوله 5-6 متر، مسقوف بحزم من القصب. يصفها الدكتور “كريجلي” كما ينقل بطاطو عنه: بناء ذو تهوية سيئة، بالغ الازدحام، لا يوفر اية خصوصية، ولا توجد ترتيبات صحية، ليس هناك اية مصادر للمياه الصالحة للشرب؛ اثاثهم صندوق خشب وسرير واحد تتكدس عليه كل فرش العائلة؛ كل لقمة يأكلها هؤلاء الناس ملوثة، يبلغ معدل وفيات الأطفال 341 من كل 1000 حالة حمل.

هذا هو شكل البناء ووصف الحياة التي عاشوا فيها الفلاحين الهاربين من جحيم الشيوخ والملاكين الاقطاع؛ فهم انتقلوا من جحيم الى جحيم آخر، كل فيضان يأتي لبغداد يكونون هم اول وأكبر ضحاياه، واي تغيير يحدث هم الوقود الاول له؛ بل ان الحكومة الملكية كانت قاسية جدا معهم، يذكر التاريخ حادثة في احدى مناطق الصرائف، ينقلها لنا الكاتب البريطاني والمراقب للأحداث في العراق عن كثب كاركتاكوس، إذ قال ما نصه: “تعود بي الذاكرة إلى حادثة رأيتها بعيني قبل نحو عشر أعوام، حي كامل من الأكواخ تهدمه الجرافات ويشرد أهله في كل حدب وصوب، لأن أحد ساكنيه قد تجرأ فقذف بحجر أمام سيارة عبد الإله وهي في طريقها إلى القصر الملكي”. لم تكن هجرتهم بسبب جاذبية المدن كما يتصور البعض بل الحياة الريفية القاسية، اقنان تحولوا الى عمال.

بغداد مدينة تنمو، المداخيل المالية صارت كبيرة، خصوصا بعد اتفاقية النفط 1952، انها بحاجة ليد عاملة وفيرة ورخيصة، الفلاحون تحولوا الى عمال اجراء، غير ماهرين، ليس لديهم خيار اخر، فهم كانوا امام أحد امرين:(اما ان يكون عملهم من الصنف الحرفي الذي لابد من تعلمه، وعندئذ كان معلمو هذه الأصناف الحرفية يخضعونهم لقوانينهم وينظمونهم وفقا لمصالحهم الخاصة، واما ان عملهم لم يكن يتطلب تعلما، وعندئذ كانوا يصبحون عمالا مياومين) كما يقول ماركس.

بموجب نتائج إحصاء 1957 تبين ان هناك 264 ألف عامل يشتغلون في مجالات الصناعة والخدمات، كانت حياتهم المعيشية مرهقة وبائسة جدا، لم يتحولوا الى قوة طبقية تدير صراعها مع بورجوازية فتية، بل كانوا قوى مشتتة ومتشرذمة، الا من بعض التجمعات العمالية والنقابات، التي كان لها دورا في الدفاع عن هذه الطبقة.

من جانب آخر ظلت الاحداث السياسية في العراق غير مستقرة تماما، فما بين تأسيس الدولة في العراق 1921 الى عام 1958 شٌكلت 59 وزارة، وفقط ما بين عام 1947 الى 1958 شٌكلت 23 وزارة، كان متوسط عمر الوزارة ستة أشهر، وما بين عام 1947 حتى عام 1958 هناك 1219 يوم فرضت فيها الاحكام العرفية، غير الانقلابات. والانتفاضات والاغتيالات السياسية؛ كان الوضع يشير الى وجود تغيير سيحصل؛ لم يكن 14 تموز 1958 الا حصيلة تاريخ سياسي طويل، لم يكن ابدا وليد تفكير مجموعة من الضباط -رغم وجودها النسبي- انما حصيلة تراكمات كثيرة وكبيرة، أدت بالنهاية الى ذلك التغيير، القضية لا تتعلق ابدا ب”طيبة” ذلك الملك او “جمال” ذلك الزمان، او ان ذاك الملك لو باقي، او نوري سعيد شلون جان يدير الوضع، او لو ما “جاي” عبد الكريم قاسم الخ، هذا تفكير ذاتي محض لا يوصل ابدا الى الحقيقة التاريخية، ولا يتلاءم مع قضايا البحث التاريخي.

عن Albadeel Alsheoi

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حول أوضاع المرأة الريفية في العراق

اقبال صلال من المعروف إن الزراعة هي المحرك الأساسي في المجتمعات الريفية، ومن المعروف ايضا إن ...

الثامن من اَذار 2024، تحديات وافاق النضال النسوي التحرري في المنطقة

يمر النظام الراسمالي حاليا باحدى اكبر واعمق ازماته التاريخية. ويبدو ان احدى بؤر هذه الازمة ...

حول حركة سلم الرواتب

جلال الصباغ    "الصورة لا تزال غامضة، لكن يجب في كافة الأحوال تعديل سلّم الرواتب القليلة ...

ما بين أجور نائب وعامل

طارق فتحي نشرت بعض وسائل الاعلام التكلفة الاجمالية لمجلس النواب في العراق، والمكون من 325 ...

إقليم كوردستان، إفلاس السلطة وعجز الحركات الاحتجاجية

نادر عبدالحمید إن مزيجا من إفلاس السلطة وعجز الحركات الاحتجاجية لفرض التراجع على هذه السلطة ...