في ثبات منطق السلطة وتغير واقع الجماهير

جلال الصباغ

ترواح قوى السلطة الطائفية والقومية وشركاؤها في ذات المكان منذ عام 2003 ولغاية الان، فمع كل انتخابات تتصارع هذه القوى فيما بينها على تقاسم الحصص وتوزيع النفوذ، لتصعد قوة وتهبط اخرى، لكن الحفاظ على جوهر العملية السياسية هو الثابت، فالتوزيع الطائفي القومي المكوناتي هو هو، والمشروع الاقتصادي الاجتماعي الذي تقوده قوى النظام يسير كما خطط له؛ اذ تعمل القوى الاقليمية والدولية الراعية للنظام على الحفاظ على شكله ومحتواه، لأنه الأنموذج الامثل الذي يعبر عن مصالحها، رغم وجود الكثير من التقاطعات فيما يتعلق بمصالح كل قوة، الا ان بقاء هذه المنظومة افضل بكثير من مجيء اية منظومة قد تتقاطع مع مشاريع واستراتيجيات هذه الدول.

ان محاولة تثبيت هذا الوضع رغم صعوبته، يسير بالتوازي مع تدهور وتراجع الواقع المعيشي للمواطنين، فتراكم الفقر والبطالة وانعدام الخدمات، وتردي الصحة والتعليم، والعمل على انهاء الصناعة وخصخصة القطاعات وتسريح العاملين، بالاضافة الى سيطرة المليشيات والعصابات على موارد الدولة، وتفشي المخدرات والاوبئة والامراض، وتزايد حالات الانتحار والتشرد، وغيرها من المظاهر التي حولت البلاد الى مستنقع حقيقي، يتنعم بخيراته شلة من اللصوص والبلطجية، بينما تكتوي الجماهير بنار غلاء الاسعار، وازمات الوقود والكهرباء وتأخر تسليم الرواتب، وتمدد العشوائيات على حساب سكن يليق بالانسان.

هذين الواقعين بالنسبة للسلطة والجماهير لا يمكن لهما الاستمرار جنبا الى جنب دون تحول او تغير، فمستويات التناقض بين تغول قوى النظام واذرعه من جهة، وتراكم البؤس والافقار في صفوف الجاهير من الجهة الاخرى، انتج على مدار العشر سنوات الاخيرة اكثر من حركة احتجاجية جذرية على صعيد البلاد، اخرها انتفاضة اكتوبر التي انطلقت نهايات 2019، لكنها لم تستطع تحقيق اهدافها بالتغيير بفعل العديد من العوامل الذاتية والموضوعية التي رافقتها.

ان محاولة اعادة انتاج ذات المنظومة وبذات الاليات المهترئة من قبل النظام ورعاته، تصطدم، بعدم قدرة الاوهام الايدولوجية الدينية والطائفية والقومية التي تبرر الاستغلال والنهب، في اداء وظيفتها كما كانت في السابق، لذلك فأن هذه القوى لا تدخر جهدا في سبيل اعادة انتاج وتسويق اوهام الدفاع عن المذهب والقومية مع كل ازمة تمر بها، فهي دائما ما تلجيء الى لغة ( الشيعة – السنة – الكرد -) لأنها لا تمتلك ما يخدر الجماهير غير هذه الاساليب.

ان المأزق الوجودي الذي تعيشه قوى النظام يكبر يوما بعد اخر، فهذا النظام غير قادر على مغادرة الارضية التي بني عليها وهي ارضية الاحزاب البرجوازية الاسلامية والقومية الليبرالية، الخاضعة لهيمنة الرأسمالية العالمية، ومع كل انتخابات نجد ان المشهد اصبح اكثر تعقيدا من ذي قبل، مع الاتفاق في النهاية على اعادة الروح للجسد المتفسخ والمد في عمره لأطول فترة ممكنة. فهم غير قادرين على مغادرة منطق الاثنيات والطوائف، لان مغادرته تعني ببساطة الغاء لكل ما بني عليه نظام 2003. 

لكن ما الذي بامكان الجماهير فعله في هذا الظرف التاريخي؟ وقد تبين خلال تجارب عديدة ان الوسائل والادوات المستخدمة في التغيير غير قادرة على انهاء عمر هذا النظام بمحاولة الاصلاح من الداخل عن طريق الدخول في مستنقع منظومة الطائفيين والقوميين، ولا بأي اصلاح لقوانين الاحزاب والمفوضية وما الى ذلك من تفاهات تطلق هنا وهناك. كما ان التظاهرات والاحتجاجات غير قادرة لوحدها على القيام بهذا الدور ما لم تمتلك مشروعا سياسيا متكاملا يعبر عن تطلعات الملايين بالحرية والحياة المرفهة والعدالة والمساواة، وما لم يكن هذا المشروع يتبنى الافق النضالي الثوري المنبثق من العمال والمعطلين عن العمل، من النساء والشبيبة ومن مختلف الشرائح المُستغلة التي تشكل الغالبية العظمى داخل المجتمع، ستبقى جميع الدعوات والتنظيمات والتنسيقيات مجرد ادوات للمساهمة في الاطالة بعمر النظام.  

ان تفاقم ازمة القوى الحاكمة في العراق واستخدامها لكل اشكال القمع والارهاب والتسقيط تجاه المنتفضين بدعم ومساندة من رعاتها الاقليميين والدوليين، يتطلب من القوى الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير الحقيقي والجذري، توحيد نضالها بعيدا عن اوهام الدين والوطن والقومية، والعمل على تسليح الجماهير بأن عدوها ومسبب بؤسها وتخلفها هي القوى البرجوازية التي تمسك بالعملية السياسية منذ عشرين عاما. اما الخوض بمطالبات جزئية من امثال الاسراع بتشكيل الحكومة واقرار الموازنة والتي يطلقها ويروج لها هذا الطرف او ذاك، ليست سوى مطالبات اطراف داخل النظام تحاول توظيف الجماهير في خدمة مصالحها الحزبية والشخصية.

17- 4- 2022

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.