شيرين عبدالله
اكتوبر 2023
عادت قضية التحرش والعنف ضد المرأة إلى الواجهة من جديد هذا الصيف (2023) نتيجة بعض المشاهد الصادمة، والتي ربما تجاهلها الكثيرون في خضم الحدث، لسلوك رئيس الاتحاد الإسباني لكرة القدم، (لويس روبياليس)، خلال حفل توزيع الميداليات، وذلك بعد فوز إسبانيا على إنجلترا في بطولة كأس العالم للسيدات في أستراليا في أغسطس اًب الماضي.
وبينما لم تكن لاعبات إسبانيا قد استوعبن بعد معنى إنجازهم الاحترافي الكبير قبل لحظات، إلا أنهم وملايين الأشخاص حول العالم أصيبوا بالصدمة من سلوك لويس روبياليس المسيء تجاه لاعبات الفريق وعلى البث المباشر، يمكن رؤية روبياليس وهو تارة يعانقهن بقوة ومن ثم يرفع أحداهن فوق كتفه بطريقة مشينة، ومن ثم نراه مذهولين، يعانق نجمة الفريق (جينيفر هيرموسو) بقوة ويفرض قبلة على فمها وهو ماسك برأسها بين يديه ويشدها نحوه بطريقة لا يتيح لها الافلات. كما وكان روبياليس قد شوهد أيضًا في لقطة اخرى وهو يمسك باعضائه التناسلية كاشارة تحدي ضد الفريق المنافس.
وكان من المحبط جدا أن طغت تصرفات روبياليس على المباراة، فبدلاً من التركيز على هذا الإنجاز التاريخي وعلى المستوى العالي من الاحترافية والمهارة التي أظهرتها اللاعبات، ركزت كافة وسائل الإعلام على القبلة، بالرغم من أن كل تصرفات روبياليس كانت مقرفة وغير مقبولة.
والأسوأ من ذلك أن القضية لم تنته هنا، بل في الأيام والأسابيع التي تلت المباراة، انطلقت حملة إعلامية دنيئة وشرسة ضد هيرموسو، وتم اتهامها بالكذب والتآمر ومحاولة التشهير برئيسها وما إلى ذلك.
لكن ما كان واعداً هو الحملة العالمية لدعم جينيفر هيرموسو وزميلاتها، والتي أثارت جدلاً واسع النطاق حول العالم، القى الضوء على العنف وعدم المساواة ضد المرأة والاستغلال من قبل من هم في مواقع القوة والسلطة ضد العاملات.
عالم غير آمن للنساء:
ما حدث في يوم كأس العالم في أستراليا لم يكن حادثا بسيطا ولا سلوكا خاطئا من رئيس الاتحاد الإسباني لكرة القدم أو حتى الفيفا السيئة السمعة، بل كان تذكيرا مروعاَ لجميع النساء والمناضلات من أجل الحرية بأن مجتمع اليوم ليس مكانا مريحا للمرأة. البطريركية متأصلة بعمق في مجتمعاتنا. في كل مرة تخطو المرأة خطوة إلى الأمام، يتم تذكيرها بالنظرة الدونية للمجتمع الأبوي نحوها، وأنها ملك للرجل ونجاحاتها هي نجاحاته، وأنها على الرغم من براعتها في مجالها، إلا أن تقييمها يعتمد فقط على معايير الجمال والأنوثة. على الرغم من تحقيق مكاسب جزئية هنا وهناك في بعض البلدان، إلا أنه لا يزال أمامنا اشواطاً كبيرة يتعين علينا أن نقطعها من أجل تحقيق المساواة.
ما حدث في 20 أغسطس لم يكن حدث فريد من نوعه، بل هو واحد الانتهاكات اليومية التي تواجهها النساء في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك في أماكن عملهن وعلى أيدي أصحاب العمل من ذوي السلطة والسيطرة، ولكن الفرق كان أن الحادثة هذه المرة تم تسجيله على الهواء مباشرة، وشاهد العالم كله كيف تحدث عملية العنف الجنسي برمتها، وتم بثها مباشرة على الشاشة وعلى جميع المنصات.
الأمر الذي يطرح السؤال: إذا كانت الأمور هكذا في العلن، فماذا يجب أن يحدث خلف الكواليس، بعيداً عن الكاميرات؟
إذا حدث هذا بين فئة نخبوية ومحترفة، مثل لاعبات كرة القدم، اللاتي يتمتعن بمكانة اجتماعية واهتمام جمهور كبير ويسهل عليهن نسبيًا رفع قضاياهن إلى الجمهور والمحاكم بسبب سمعتهن وقدرتهن المالية، مقارنة بملايين النساء اللاتي يتعرضن لمثل هذه المضايقات بشكل يومي في العالم، كيف هو الوضع عندما يكونون أقل عرضة للاهتمام وانظار العالم، في المؤسسات والدوائر العامة والخاصة، أو المصانع والمتاجر والمزارع وغيرها، من قبل أصحاب العمل ذوي السلطة؟
كان رد فعل روبياليس بالضبط رد فعل المتحرش، اذ اتهم كل من يتحداه بأنه غبي أو غير عقلاني أو حاقد ومتآمر، بالإضافة إلى التقليل من أهمية الحادث واتهام الضحية وآخرين بالتشهير واغتيال الشخصية. وهذا كله جزء من تلاعب المعتدي بمشاعر الضحية، وخلق الشك في نفسا، وترهيب كل من يدافع عنها.
ويزعم ان رد فعل هرموسو وهي تضحك بعد الحادثة قد استخدم كدليل ضدها، وهذا ايضا من مظاهر الذكورية السائدة، التي تتهم المرأة بـ”قبول” العنف، ولكن انه معلوم للجميع ان المراة تحاول، مضطرة، التخفيف من الموقف للهروب من شدة الاحراج واثارة الضجة، وخاصة اذا كانت القضية تتعلق برجل ذو نفوذ ومكانة اجتماعية، و في حالة هرموسو، في لحظة كانت انظار العالم كلها عليها وعلى زميلاتها، فمن الصعب جدا ادانة رجل يتمتع بسلطة وسيطرة كبيرة ومؤسسة عملاقة مثل فيفا في تلك اللحظات.
تدرك الضحايا جيداً مدى الحصانة الاجتماعية والمؤسساتية المتاحة للرجال المتنفذين، ومدى العوائق القانونية والاجتماعية، وكثافة التحقيقات، بالاضافة الى انحياز السلطات القضائية والرأي العام غالباً إلى جانب الرجال، بسبب إمكانياتهم المالية ونفوذهم الاجتماعي، من السهل على المغتصبين مقاضاة الضحية بتهمة التشهير أو أي شيء آخر. كل هذا يساهم في تكميم افواه ضحايا العنف.
الذكورية متجذرة بعمق، لكن التغيير قادم ولا يمكن إيقافه!
إن دخول المرأة مجال الرياضة والألعاب الدولية يعد إنجازا في حد ذاته وخطوة نحو إزالة العوائق أمامها للتعبير عن قدراتها وتحقيق إبداعها ومكانتها الاجتماعية في المجتمع. ومن الواضح أن تحرر المرأة لا يحدث بين عشية وضحاها، بل هو عملية مستمرة. إن دخول المرأة مجالاً معيناً لا يعني أن كافة العوائق التي تواجهها قد أزيلت، لذلك يجب التعرف على كافة الظواهر النمطية والبطريركية وكشفها من أجل الارتقاء بوعي المجتمع بهذه القضايا وازالة اثار الانماط الذكورية المترسخة اينما وجدت.
وكما نعلم فإن واقع المرأة في العراق والشرق الأوسط بعيد كل البعد عن وضع المرأة في الدول الغربية، فهنا تعيش المرأة تحت السيطرة التامة للعقلية الأبوية المدعومة من أنظمة محافظة وقمعية التي ترسخ دونية المراة واستعبادها في قوانين الدولة. مع هذا، فأن تحقيق أي قدر من المكتسبات للمرأة في أي جزء من العالم سيساهم في رفع توقعاتنا ويشكل خطوة نحو تحقيق المساواة.
أحد الأشياء المهمة التي نتجت عن سلوك روبياليس هو أنه في غضون ثوانٍ أعاد انتباه العالم أجمع إلى قضية العنف ضد المرأة، وأثبت أن التغيير قد بدأ.
بعد اليوم، وعلى خلفية حركات عالمية مثل (أنا أيضًا- Me Too ) في عام 2017، هناك وعي جديد بماهية العنف الجنسي وكيفية التعرف عليه وعدم قبوله باعتباره “شرًا لا بد منه”. ويدرك العالم الآن أن خطوات المرأة نحو المساواة مستمرة وأن ما كان يُنظر إليه سابقاً على أنه “طبيعي” أو تم تجاهله لم يعد كذلك.
لكن تحقيق المساواة للمرأة لا يتم بمعزل عن كافة الفئات المضطهدة الأخرى في المجتمع. الآن، ونحن على شفا العديد من الأزمات العالمية، بما في ذلك إرث فيروس كورونا، والحروب، والكوارث المناخية، والأزمات الاقتصادية، والتضخم، والتركيز المتجدد على عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت بسبب السياسات النيوليبرالية، فإن قضية تحقيق المساواة في وبكل أشكاله أصبح أمرا ملحا لا يمكن تأخيره. لم يعد من الممكن تجاهل مسألة الحد من الفقر، أو وجود اختلافات طبقية واسعة، أو عدم المساواة العرقية والاجتماعية التي كشفتها جائحة فيروس كورونا، والتي تشكل تهديدا مباشرا لحياة الملايين منا.
كان فوز أسبانيا بكأس العالم للسيدات بمثابة إنجاز تاريخي عظيم، ولكن الأهم من ذلك أنه أعطى النساء والشباب في مختلف أنحاء العالم الأمل في امكانية وضع حد للمعايير الذكورية التي عفا عليها الزمن وامكانية انهاء اللامساواة، وانه لم يعد ممكنا بعد الان غض النظر عن التحرش والتعنف من قِبَل ذوي السيطرة النفوذ.