طارق فتحي
(ان دعوى ابتدأ الفلسفة مع اليونان دعوى فارغة) (الفلسفة لم يكن لها يوم منه بدأت وفيه ظهرت)
في بعض الأحيان تبحث عن إجابة لأسئلة تدور في ذهنك عن أصل الفلسفة ما كانت؟ هل كانت ميثولوجيا ام تجارب بشرية طويلة؟ وهل صحيح انها ابتدأت مع اليونان؟ ولماذا اليونان بالذات نضجت فيها الأفكار الفلسفية وبلغت الذروة؟ فتطالع الكثير من الآراء هنا وهناك، لكن ما يجمع عليه اغلب الفلاسفة والمفكرين هو ان الفلسفة بدأت في اليونان، ويرون انها تطورت من الميثولوجيات القديمة “هوميروس، هزيود، الاورفية”، مع ان برتراند راسل في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية يقول “لن تجد في التاريخ كله ما يثير الدهشة، او ما يتعذر تعليله، أكثر ما يدهشك ويتعذر عليك تعليل الظهور المفاجئ للمدينة اليونانية” وهذا أحد الآراء المثالية التي جرت خلفها الكثير من التفسيرات الخاطئة، والا فما معنى “ظهور مفاجئ”؟ وهناك اراء تقول بوجود “عقل خاص امتاز به اليونانيين” او “المعجزة اليونانية”، وهذه الآراء تدور ضمن فكرة “التفوق القائم على الجنس” وتقود بالتالي الى ما يسمى “المركزية الأوروبية”.
لا يمكن نكران او تجاوز ما قدمته اليونان من منجز فكري كبير، فبارتملي سانتهيلير في مقدمته لكتاب ارسطو “الكون والفساد” يذكر العشرات من الأسماء التي لمعت في الادب والفن والفلسفة والفلك والجغرافيا والرياضيات والتاريخ والطب، لكن ذلك لا يعني ان اليونان ظهرت بشكل مفاجئ، من باب قيل لها “كوني فكانت”، فهذا ما تسوقه الكثير من الأبحاث والدراسات، وهذه مشكلة دراسة تاريخ الفكر من خلال الفكر، التي تنتهجها المدارس الفلسفية المثالية، وهي الغالبة في هذا العصر.
في عام 1973 يصدر أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد الراحل حسام محي الدين الالوسي كتابه الرائع “بواكير الفلسفة قبل طاليس”، خارجا عن الفهم المثالي الشائع، مبديا منهجية مادية علمية “التصور المادي للتاريخ او المادية التاريخية”، فمن خلال ستة فصول مطولة أكد كما يقول “ان اليونان ليسوا أول من بدأ الفلسفة والعلم والتجريد أو التنظير، فأنه ليس هناك وقت ولا مكان يمكن ان يقال انه فيهما أو معهما بدا العلم والتفكير والتعميم”، وهذا هو جوهر ما بحثه الكتاب، فهو يبدأ بعرض مفصل وشامل للآراء التي تدور حول اصالة الفلسفة اليونانية، متتبعا اراء الباحثين أمثال زيلر وبرنيت وجومبرز وغيرهم، ناقدا لهذه الآراء، وطارحا لآراء أخرى اكثر رصانة ومعقولية. ثم ينتقل الالوسي الى شرح نظرية المعرفة ودور العمل فيها على ضوء البحوث الاجتماعية والنفسية واللغوية، وقد أكد بهذا الفصل ان “الوعي هو نتاج فعالية الدماغ” أي دماغ بشري، ليس خاصا او محصورا بعرق او جنس معين، وهو يشرحها بمنهجية بافلوفية رصينة، وليثبت بالدليل الكافي على “ان وصول الأنسان الى التعميم والتنظير والادراك وبناء معارفه قد تم كله قبل مجيء اليونان”.
وفي الفصل الثالث يبحث الالوسي مدى “علمية” الفكر اليوناني قبل سقراط، وفي هذا الفصل نجد اجرأ وأخطر رأي يطرحه أستاذ فلسفة حول الفلسفة اليونانية، فهو يرى ان ما يسمى ب “أوج ازدهار الفلسفة اليونانية متمثلة في تكون المدارس الفلسفية بالمعنى العميق والكامل على يد افلاطون وارسطو والرواقية والافلوطينية المحدثة هو نفسه-أي هذا الاوج- هو حضيض العقلانية” فهي نفس تصورات البدائيين “موضوعة بكلام منمق ونظام فلسفي يخفي على غير الخبير معدنها الميثولوجي البحت”، فما هي فكرتا “المثل والتناسخ عند افلاطون وهي كل فلسفته، وما الاله المحرك الغائي والعقول الفلكية عند ارسطو وهي عماد ميتافيزيقاه، وكذلك ما فكرة افلوطين عن الفيض، والواحد الذي يلد، والبذور التي تصدرها النفس الكلية الا ترهات خرافية يضحك طلبتنا علينا ونحن ندرسها، مهما حاولنا تحصينها بالكلام الصعب واللفظة الرنانة والحجة العقلية! اليس اوج العقلانية في الفلسفة هو حضيضها اذن؟” ثم يقول بشكل رائع “نفس هذه العقائد عند البدائيين يسموها خرافات واعتقادات ولا يسموها فلسفة”. انها اراء جريئة تصدر من عقلية ناقدة فذة، لم تنظر لهذه الفلسفة او تلك نظرة دوغمائية، جامدة، مقدسة.
لكن كيف تطورت الفلسفة في اليونان؟ يبحث الالوسي تلك المشكلة عبر منهجية ديالكتيكية، فهو يرى ان وجود تحول نوعي، كيفي في الحضارة اليونانية لا يمكن ان يكون دون اثر لتقدم حضارات عليها، وهو يشتغل بقانون “التحولات الكمية البسيطة تنتهي في مرحلة محددة الى تحولات كيفية وبالعكس”، ومعنى ذلك ان “تجمعات التحولات في نواحي الحضارة المختلفة، في العلوم والصنائع، والفنون، وسائر النواحي الأخرى، كالاعتقادات والنظم، التي قدمتها وانجزتها البشرية قبل اليونان، انتهت مع اليونان، وبدء القرن السادس ق.م، وتحت ظروف معينة الى تحول كيفي وطفرة”، ان المرء ليبتهج وهو يسمع ويقرأ التصور المادي للتاريخ، بقوته ورصانته.
لا نملك الا ان نقول شكرا لهذا الإرث الفكري والفلسفي الرائع الذي تركه لنا أحد أساتذة الفلسفة بجامعة بغداد من زمن مضى، شكرا من القلب للراحل طيب الذكر حسام محي الدين الالوسي الذي اعطانا تصورا ماديا علميا في بحثه لمسألة غاية في التعقيد، وهي “نشأت الفلسفة اليونانية”.