ميدان المعركة – خاطرة للكاتب سواره ايلخانيزاده

ترجمة :عبدالله صالح

المعركة بدأت منذ ثلاثة أيام، اليوم كانت النار على أشدها كأنها تنتشر في الهشيم، كأنها حية منفعلة في صيف حارق، صدى الموت يُسمع في كل مكان، الحلق اليابس للمدفع والرشاش يشرب من الدم الطازج للشباب دون أن يكف ودون أن يُروى ضمأه، هناك جثتان في الخندق الذي أنا فيه الآن ، يبدوا ان جثة وضع صاحبها يده على الجرح الذي في صدره من شدة الألم حتى فارق الحياة، والأخرى، والتي يبدوا ان صاحبها لم تنموا عنده شعر اللحية والشارب بكثافة بعد، كانت الابتسامة قد علت وجهه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. كنت أتطلع الى الضباب الكثيف والدخان الذي يغطي رؤياي، رغم كون الرصاص ينهال على خندقي بين الفينة والأخرى، أضطر على اثره الى الركون لصخرة كنت قد اتخذتها كوسادة لرأسي خلال الليلتين الماضيتين، الا ان جثة هذا الشاب الذي يركن الى جانبي كانت تخيفني، خصوصا الابتسامة التي تعلوا وجهه وكنت أصرخ بأعلى صوتي: ما لذي يجعلك تضحك أيها العدو الميت!؟ إلا ان العدو الميت يستمر في ضحكته دون أن يرد.

أعود وأرفع رأسي مجددا وأملأ الفضاء بأزيز الرصاص الذي ينطلق من رشاشي المجنون، طلقة طائشة تمر جنب احدى اذني لتصيب إحدى الخنادق الأخرى بدلا مني.

كان الموت يخيم على أوجهنا نحن الطرفان المتقاتلان، كان الموت هو الشيء الوحيد الذي يجمعنا ، كنا نتفق ولا نختلف عليه، كلانا كان يخشاه و لكن يسير نحوه، فجأة راودتني فكرة، ماذا لو ان اتفاقنا هذا على الموت الذي التقت فيه رؤيانا، كان اتفاقا على الحياة !!؟ لو كان ذلك، لكان هذا الشاب العدو الذي قُتل في خندقي، وذلك الصديق الذي لفض أنفاسه الأخيرة  قبل قليل أحياءً اتحدث اليهم عنكِ بدلاً من القتل والدمار ، لكنت أقول لذلك الشاب العدو  يمكننا أن نكون أصدقاء بدلا من أنكون أعداء، وصديقي القتيل كذلك، من دون أي شك ،كان له حديث يرويه لي عن أمه التي تنتظره بعين ثاقبة مليئة بأمل العودة الى أحضانها .

منذ مدة بدأ العدو بالتراجع، طائراته لا تهاجم، تحول السهل الصامت الى مقبرة لآلاف الضحايا الذين كانت لهم آمال في الحياة، لو تتنصتي قليلا لتسمعين عويل وبكاء الأرض، زال خوفنا من التردد على الخنادق الأخرى، لا وجود لكلام يُقال، دخان البارود وغبار الرمال الحمراء تُزين وجه المعارك. رائحة الدم تملأ الهواء الخالي من النسيم، ذلك الهواء الساكن دون حراك، الكل يبحث عن جواب لذلك السؤال القائل: لماذا نُحارب ؟ لماذا نَقتُل و نُقتَلْ ؟ ولكن لا أحد يَرُد!

مقاتل كَهلْ يُدندن ويقول في نفسه : ” الحرب من أجل الحرية ، الموت من أجل الحياة ” . في هذه الاثناء كنت تواقا وكلي شوق لأسمع من يتحدث الي و يطمأنني باني ما زلت حيا، أجلس الى جانبه، المقاتل العجوز يفهم ماذا أريد، يسألني بهدوء : ” كم واحدا قَتَلتْ ؟” جسدي يمتلأ ضيقاً، الا انه يستمر في حديثه :” اذا استطاع العدو يوما أن يكبل أرواحنا بالسلاسل كما هو الحال بالنسبة لأجسادنا، ذلك هو يوم هزيمتنا الأخيرة، يوم تصفية قضيتنا ، المعارك مكروهة، كل هذا الفم اليابس، كل ذلك الخوف و الارتجاف مكروه ” . في هذه الاثناء يتناول الزمزمية التي تحول الماء في داخلها الى حليب فائر اثر حرارة الجو لتتقاطر على شاربه قطرات كأنها ندى متناثرة، يتنهد بعمق دون أن يدري لماذا، أهومن أجل شيء من الراحة؟ أم من أجل اظهار شيء من العطف؟، ثم يستمر في حديثه: ” إلا ان ما هو الأسوأ والأمَرَّ من الحرب هو أن لا نكره و لا ننبذ الاستسلام والخضوع “.

الآن، وانا أكتب لك هذه الرسالة يقترب الفجر، ومع ظهور أولى خيوط الشمس، ننتظر الغراب الحديدي كي يخيم بضلاله المخيفة ويظهر في السماء ثم يبدأ الموت بخفض أجنحته على أرض المعركة، إلا أن تفكيري معكِ أنتِ، أتذكر حين كنا نتحدث عن مستقبل مليء بالحب والعشق، وكنا نختلف على تسمية أطفالنا، أتذكر ذلك اليوم الذي كنت أتوجه الى المعركة وكنتِ تبكين وكنت أضحك لبكائك، وأعدك باني سوف أعود اليك قريبا. اليوم تنتهي المعركة ، اذا لم أُقتَلْ واذا كنا ننتصر ، سوف أعود لأغسل عيني بعطر لحضيك . هناك حقيقة تقول بان الموت مخيف حين تكون بعيدا عنه، الآن انا مضطر كي انهي رسالتي، الآن فقط بدأت أصوات الطائرات وأزيز الرصاص يكسر صمت الوادي وعليّ ان اسير نحو خندقي .

عندما انتهت المعركة عُثرتْ على هذه الرسالة قرب جثة أحد المقاتلين الشباب الذي كان قد غرق بدماءه.

 

  • أديب من كوردستان ايران، بدأ بالكتابة أوائل السبعينات من القرن الماضي وكانت له رؤى تقدمية، رحل عن الحياة وهو في ريعان شبابه .

عن Albadeel Alsheoi

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

جريدة الغد الاشتراكي العدد 37

القراء الأعزاء صدر العدد (٣٧) من جريدة ( الغد الاشتراكي ) وهي تغطي ابرز الأحداث ...

حول أوضاع المرأة الريفية في العراق

اقبال صلال من المعروف إن الزراعة هي المحرك الأساسي في المجتمعات الريفية، ومن المعروف ايضا إن ...

الثامن من اَذار 2024، تحديات وافاق النضال النسوي التحرري في المنطقة

يمر النظام الراسمالي حاليا باحدى اكبر واعمق ازماته التاريخية. ويبدو ان احدى بؤر هذه الازمة ...

حول حركة سلم الرواتب

جلال الصباغ    "الصورة لا تزال غامضة، لكن يجب في كافة الأحوال تعديل سلّم الرواتب القليلة ...

ما بين أجور نائب وعامل

طارق فتحي نشرت بعض وسائل الاعلام التكلفة الاجمالية لمجلس النواب في العراق، والمكون من 325 ...