إقليم كوردستان العراق، إفلاس السلطة وبديلان واقعيان

نادر عبدالحميد

يعيش إقليم كوردستان العراق حالة من الإفلاس التام والشامل سياسيا واقتصاديا، نتيجة استراتيجية الحكم وإدارة الإقليم التي تبنتها واعتمدتها أحزاب الحركة القومية الكردية وحكومتها المشتركة خلال العقدين الماضيين (٢٠٠٣-٢٠٢٣).

أمام مجتمع رأسمالي متأزم، وسلطة برجوازية مفلسة في إقليم كوردستان العراق، ليس هناك سوى بديلين واقعيين وعمليين، إما الإصلاح النيوليبرالي الهش أو ثورة الجماهير الكادحة وإقامة حكومة عمالية في الإقليم لبسط سلطتها المجالسية على المجتمع وتطبيق الإشتراكية‌، وذلك كجزء من حركة الطبقة العاملة في عموم العراق.

أولا: الإفلاس السياسي

فشلت الأحزاب الحاكمة في إنشاء إدارة وحكومة موحدة للإقليم. الحكومة الحالية التي تسمى (حكومة الأقليم) ليست سوى كيان فارغ، إذ لا توجد سلطة مركزية موحدة في كوردستان ولا قانون وقضاء مستقل عن الأحزاب الميليشية الحاكمة، ويدار الإقليم كمنطقتين منفصلتين إداريا وسياسيا؛ المنطقة “الصفراء” (أربيل ودهوك) تحت حكم (الحزب الديمقراطي) و”الخضراء” (السليمانية وحلبجة) تحت حكم (الإتحاد الوطني) عبر ميليشياتهما وأجهزتهما الأمنية القمعية. لم يقتصر الأمر على هذا الفشل، بل تلاشى الاتفاق الاستراتيجي المبرم بين الطرفين عام (٢٠٠٧)، وتصاعدت الخلافات بينهما إلى درجة بدأ كل طرف يعمل علی إجراء تحالفات مع أطراف دينية وقومية في السلطة المركزية ضد الآخر، وكذلك إبرام اتفاقيات أحادية مع حكومة بغداد.

هذا وفيما يتعلق بارتباطهما بالجماهير الكادحة في الإقليم، فليس في جعبتهما سوى القمع والإرهاب تجاه احتجاجاتها الاجتماعية، الواسعة والمستمرة بصورة شبه يومية. لقد انفصلت هذه الجماهير عنهما منذ زمن، فإضافة إلى الإعتراضات اليومية، تكشف المشاركة الضئيلة لهذە الجماهير في مسرحية الإنتخابات البرلمانية، مدى انفصالها عن هذە الأحزاب، التي “تفوز” عبر التزوير والتلاعب بالنتائج.

 

ثانيا: الإفلاس الاقتصادي

علاوة على الإيرادات الداخلية، حصل الإقليم على نسبة (١٧%) من الميزانية المركزية خلال السنوات العشرة الأولى (٢٠٠٣ – ٢٠١٣) من سقوط نظام البعث، ومجموعها (٤٢) مليار دولار (أنظر الجدول البياني). رغم كل هذە الموارد المالية، لم يتم إنشاء بنية تحتية اقتصادية في كوردستان، بل علی العكس من ذلك نهبت معظم هذە الأموال من قبل الشركات التابعة لأحزاب السلطة وكبار المسؤولين الحزبيين والحكوميين القائمين على احتكار التجارة وبيع وشراء الأراضي لبناء العقارات في المدن والاستحواذ على الثروات الطبيعية في الإقليم، فظهر الآلاف من المليونيرات والمئات من أصحاب المليارات في فترة زمنية وجيزة، كما وانتشر الفساد بصورة لا مثيل له.

هذا وتم تبني استراتيجية الاستقلال الاقتصادي للإقليم سنة (٢٠١٤)، لإنتاج وبيع النفط والغاز في الأسواق الدولية عن طريق الشركات الأجنبية وعبر تركيا، مما أدى إلى قطع ميزانية الإقليم من قبل الحكومة المركزية، وهو ما أثر سلباً على قدرة حكومة الإقليم على سداد التزاماتها المالية تجاه الشركات المتعاقدة معها، ودفع رواتب الموظفين والعمال بشكل منتظم واستقطاع أجزاء منها، وهذا بدوره أدى إلى انكماش السوق، وإفلاس أكثر من (٣٠٠٠) شركة في الإقليم، وتفشي البطالة بشكل غير مسبوق.

ليس هذا فحسب، بل وتراكم دين ضخم علی حكومة الإقليم ما يزيد على (٣٢) مليار دولار، وهذا يعني أنه ليس فقط الآباء والأمهات مع أطفالهم هم من يعانون الآن من الفقر والبطالة والحرمان من الخدمات، بل وسيطال هذا الوضع ليؤثر على مستقبل أحفادهم أيضا، إن لم يتم وضع حد له.

 

ثالثا: لا مکان للإصلاح داخل هذه السلطة

لسنوات ظلت أحزاب السلطة تصرخ بصوت عال عن الإصلاح، حتى أن رئيس الوزراء الحالي (مسرور بارزاني) أطلق على حكومته التاسعة، عند تشكيلها (تموز ٢٠١٩)، اسم “حكومة الإصلاح”، لكن حكومته فرضت على الشعب فقرا وبٶسا أكثر من سابقاتها، لذا أدركت الجماهير خلال التجربة السياسية اليومية أن لا معنى للإصلاح داخل الحكومة والأحزاب الحاكمة. فالمسألة المطروحة حاليا هي كيفية التخلص منها.

 

رابعا: التيارات الإجتماعية السياسية والبدائل

لا أحد في إقليم كوردستان يرضى بهذا الوضع السياسي والاقتصادي المزري، لذلك يفكر الجميع في إيجاد مخرج من هذا “الجحيم “الذي فرض على الجماهير.

من هنا، يتصارع القوميون الليبراليون والإسلاميون السياسيون وكذلك الثوريون الشعبويون وأخيرا الاشتراكيون الثوريون فيما بينهم؛ من أجل بسط هيمنة افقهم على المجتمع، وحشد الجماهير داخل اجنداتهم السياسية، ودفعها بإتجاه تحقيق أهدافهم الخاصة بحركتهم. هذا عدا عن التنافسات الداخلية والمشاجرات “العائلية”، داخل كل تيار بين أحزابه وتنظيماته المختلفة والمتنوعة. ومن هنا تطرح مجموعة من اللوائح السياسية والبدائل المتنوعة، بهدف قولبة إعتراضات الجماهير المضطهدة والسيطرة على حركاتها الإحتجاجية وتوجيهها صوب تحقيق أجندات معينة.

وعلى الرغم من كثرة التيارات والمنظمات والأحزاب والكتل السياسية، والبدائل العديدة المطروحة، إلا أنها تصطف جميعها في جبهتين طبقيتين، وتندرج ضمن بديلين مضادين: الإصلاحي القومي النيو-الليبرالي البرجوازي والبديل الثوري الإشتراكي العمالي.

  • بديل القوميين الليبراليين

بعد أن خاب آمال القوميين الليبراليين المعتمدين على الدول الغربية والولايات المتحدة، في الإصلاحات عن طريق البرلمان والضغط علی أحزاب السلطة (الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني) لإيجاد دولة القانون والمؤسسات عن طريقهم، يعلنون الآن بأنهم عائق أمام هذا الهدف، ويطالبون بإزالة سلطتهم، إلا إنهم يخشون أن يجري ذلك عن طريق الإنتفاضة الجماهيرية والثورة، ويفضلون طريقة ضغط الدول الغربية لإجبار أحزاب السلطة علی الرحيل عن طريق إجراء انتخابات “نزيهة” تحت إشراف دولي لمنع التزوير والتلاعب بالنتائج.

ينتمي حزب (الجيل الجديد) إلى هذا البديل النيو-الليبرالي الذي يريد انتزاع السلطة وتشكيل حكومة جديدة بمشاركة أحزاب قومية وإسلامية اخری من خلال البرلمان مع بقاء مؤسسات الحكم التي صنعها الحزبان، أي إحداث تغيير شكلي سياسي فوقي ليس إلا، وذلك بإزاحة رأس الدولة والبقاء علی نفس الكيان ونفس المؤسسات الحاكمة. الدول الديمقراطية الغربية والإمبريالية الأمريكية تدعم هذا التغير الهش، الفوقي والشكلي، لإنقاذ الوضع وعدم إفلاته عن السيطرة، وذلك من أجل الحفاظ علی مصالحها وأجنداتها الجيو-السياسية في منطقة شرق الأوسط.

  • بديل الإسلام السياسي

الإسلام السياسي قوة منظمة، لدى أحزابه مقاعد في برلمان كوردستان ونفوذ في مٶسسات الدولة والمحاكم، وبالتعاون مع أحزاب السلطة يلجئون إلى فرض القوانين الرجعية، خاصة ضد المرأة وضد الشبيبة المتعطشة للحرية، وذلك لسد الطريق أمام الحريات المدنية والعلاقات التقدمية، ولكبح جماح الصراع الطبقي في المجتمع. هذه الأحزاب الإسلامية كانت شريكة للـ(اتحاد الوطني الكوردستاني) و(الحزب الديمقراطي الكوردستاني) في الكابينات المختلفة لحكومة الإقليم، ولديها فرصة أيضا بأن تكون شريكة مستقبلية لحكومة حزب (الجيل الجديد)، أو أن تكون جزءا من حكومة تحالف بين أحزاب قومية وإسلامية، لكن من المستبعد أن يصبح الإسلام السياسي بديلا مستقلا للوضع الراهن في كوردستان.

  • بديل الشعبوية الثورية

إضافة إلى الإحتجاجات اليومية، يتراكم الاستياء الشعبي يوما بعد يوم ويؤدي بين حين وآخر إلى انفجارات جماهيرية غاضبة، تنشط فيها المجاميع اليسارية ونشطاء الحركات الإحتجاجية، حيث يطالبون علی الدوام بنزول الجماهير إلى ساحة الاحتجاج والتظاهر والقيام بالانتفاضة حتى يسقط النظام، ويستبدل بسلطة الشعب عبر تشكيل المجالس والكومونات والكانتونات، وكل ذلك دون حساب لموازين القوی ودرجة التنظيم لدی الجماهير.

هؤلاء يرون الجماهير كجبهة موحدة مقابل حكومة الإقليم وسلطة الحزبين أصحاب الميليشيا وأجهزة الأمن والقمع ولا يرون النضال الطبقي، ومن وجهة نظرهم جدال التيارات الفكرية والسياسية الحزبية داخل الحراك الجماهيري تخلق الاختلافات وتؤدي إلی إضعاف صفوف النضال الجماهيري، لذا ينبذون النضال الفكري كأحد أوجه النضال الطبقي، ويثمنون وحدة العمل والعداء الجماعي ضد النظام.

الشعبوية الثورية تيار هلامي غير منسجم وغير منظم، رغم إنه نشط في الحركات الإحتجاجية والأحداث السياسية، لكن أفقه فوق الطبقي لن يسمح له بأن يكون بديلا في مجتمع رأسمالي من جانب الطبقات الأصلية في المجتمع، أي البرجوازية والطبقة العاملة، إلا إنه في أوضاع تأريخية معينة ومتأزمة بإمكانه أن يصبح جسرا مؤقتا لعبور بدائل إحدى الطبقات الأصلية.

  • البديل الإشتراكي

ينطلق هذا البديل من حقيقة أن الجماهير في كوردستان تعيش في مجتمع رأسمالي طبقي، كجزء من نظام إقتصادي وسياسي عالمي، حيث تتمتع البرجوازية الكوردية بعلاقات اقتصادية وسياسية وحتى أمنية وعسكرية إستراتيجية راسخة مع برجوازية بلدان الشرق الأوسط والعالم الغربي، خاصة الإمبريالية الأمريكية. إن مظاهر علاقات ما قبل الرأسمالية والعشائرية المترافقة لسلطة الحزبين لا تغير من الجوهر الطبقي البرجوازي لهذه الأحزاب ولحكومة الإقليم.

وقعت السلطة السياسية في كوردستان في أزمة متفاقمة، وذلك نتيجة تبني أحزاب الحركة القومية الكوردية لنهج إقتصادي طبقي واضح وهو النيو-الليبرالية، المتماشية مع إرشادات مٶسسات الدول الإمبريالية الغربية أي (البنك الدولي) و(صندوق النقد الدولي)، اللذان يؤكدان علی خصخصة القطاع العام وتملص الدولة من مسؤولية تأمين الخدمات الاجتماعية، وتخليها عن التشغيل المركزي.

أصبح الآن بقاء هذا النظام الرأسمالي وسلطة البرجوازية الكوردية في عداء سافر ومباشر مع الحياة اليومية للجماهير الكادحة. ما يعيق عملية تحول الاوضاع المتأزمة للرأسمال وسلطة البرجوازية وتراجيديا حياة الجماهير الى أزمة ثورية وثورة اشتراكية للعمال والكادحين وإقامة سلطتهم، هو عدم تنظيمهم وتسلّحهم بأفق اشتراكي أممي وانقطاع حركتهم عن مجری حركة الطبقة العاملة في بقية أجزاء العراق. نحن كشيوعيين ثوريين في كوردستان العراق نواجه هذا التحدي التأريخي.

الخلاصة

أمام مجتمع رأسمالي متأزم، وسلطة برجوازية مفلسة في إقليم كوردستان العراق، ليس هناك سوى بديلين واقعيين وعمليين، إما الإصلاح النيوليبرالي الهش أو ثورة الجماهير الكادحة وإقامة حكومة عمالية في الإقليم لبسط سلطتها المجالسية على المجتمع وتطبيق الإشتراكية‌، وذلك كجزء من حركة الطبقة العاملة في عموم العراق.

أواخر أيلول ٢٠٢٣

عن Albadeel Alsheoi

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حياة الأطفال، مسرح للمأساة التي خلقتها الرأسمالية وليبراليتها الجديدة

بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة عمالة الأطفال عبدالله صالح حددت منظمة الأمم المتحدة يوم الثاني عشر ...

ندين وبشدة غلق مقرات الأحزاب ومصادرة ممتلكاتها

أصدرت الهيئة القضائية للانتخابات في (مجلس القضاء الأعلى) العراقي في (١-٨-٢٠٢٤)، قرارا بحل مجموعة من ...

مقابر منسية لنساء ضحايا جرائم” الشرف”

إقليم كوردستان تقرير أعده للغد الاشتراكي – عبدالله صالح عندما يتوجه الناس كعادتهم صبيحة أيام ...

الشعوذة والتنبؤ، بين الانتشار وسبل التصدي

نور سالم على مر العصور، لعبت النساء دور الضحايا في قصص السحر والشعوذة، وغالبًا ما ...

جذور الفاشية المعاصرة في إسرائيل

نادر عبدالحميد لا يمكن النظر إلى حرب نتنياهو ضد المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة على ...