طارق فتحي
((الهيمنة هي شكل من أشكال السيطرة المبنيّة على الجمع بين القوة والقبول اللذان يتوازنان بأسلوب متفاوت، دون أن تتغلب القوة بشكل مفرط على القبول، بل تسعى لأن تبدو هذه القوة مُستندة على قبول الأغلبية)) أنطونيو غرامشي.
((ما اعنيه برأس مال رمزي هو ذاك الشكل من رأس المال الذي يولد من العلاقة بين نوع ما من رأس المال وفاعلين اكتسبوا الطابع الاجتماعي بحيث يعرفون هذا النوع من رأس المال ويتعرفون اليه ويعترفون به)) بيير بورديو.
نستطيع ان نسخر مما تفعله قوى الإسلام السياسي، فمثلا يريدون تهديم وإزالة تمثال هنا (أبو جعفر المنصور)، أو تغيير اسم شارع او ساحة هناك (شارع الرشيد، ساحة الواثق)، او يرغبون بأن يجعلوا يوما معينا عطلة رسمية “الغدير”، او يتقاتلون على تعليق صور لقادتهم، تصل حد الموت “صور مقتدى- قيس-السيستاني-أبو مهدي المهندس”؛ كل ذلك هم يفعلوه ومنذ أن جيء بهم، وهم يخوضون ذلك الصراع على مدار سنوات حكمهم؛ لكن هل السخرية كافية؟ هل بالإمكان فهم جوهر هذه الممارسة السياسية الإسلامية داخل المجتمع؟
احد اهم الخيوط التي من الممكن الإشارة اليها في ولادة الدولة هو (الرأسمال الرمزي)، وهذا النوع من الرأسمال يأتي بعد او ينتج عن الرأسمال الاقتصادي، فمراكمة هذا الرأسمال مهم جدا لنشوء الدولة وفرض هيمنتها على المجتمع، ولا يقتصر هذا الرأسمال على سياق معرفي واحد، بل انه يشمل العديد من الأوجه الثقافية والمعرفية، فالدولة لا تريد ان تبقى أسيرة منطق (الدولة-الشرطة)، فهذا يشكل لها أزمات عديدة قد تؤدي الى انهيارها، لا تريد ان تبقى ضمن تعريف (قوة قامعة)، تريد ومع بقاء هذا الشكل قوة قامعة ان تكون “قوة مقبولة”، وقبولها يتأتى او يستمد مشروعيته من “قبول الأغلبية”، وهذه الأغلبية من الممكن “الهيمنة” عليها بهيمنة رأسمال رمزي اعتباري ضروري هو الذي يحدد ثقافة او رؤية هذه الدولة او تلك.
من الممكن ان يرى البعض ان المطالبة بهدم تمثال معين، يحمل دلالة رمزية معينة عند جمهور واسع، هو بمثابة سخافة وابتذال تقوم بها السلطة وميليشياتها؛ أيضا مطلب جعل “الغدير” عطلة رسمية هو بمثابة ترسيخ للطائفية؛ كل ذلك صحيح، لكن الجوهري في هذه الممارسات هو سياسة واضحة جدا، انهم يريدون نشر رأسمال رمزي جديد موافق لشكل الدولة الجديدة، لهذا تجدهم يثيرون هذه القضايا بين الحين والأخر، ويستغلون ظروفا دولية معينة، تسمح لهم بنشر هذه الأفكار والرؤى، فإذا ما تم لهم الامر، بدعم من جمهورهم الواسع، الذي يفرضون سيطرتهم عليه بنشر وهيمنة هذا الرأسمال الرمزي الجديد، الذي يحظى بمقبولية تامة عند هذا الجمهور، هذه المقبولية تعني استمرارية وتأبيد حكمهم.
شاهدنا بشكل ملموس أيام انتفاضة أكتوبر-تشرين ٢٠١٩، الصراع الذي احتدم بين المنتفضين الرافضين لقوى الإسلام السياسي، وبين ميليشياتهم التي دخلت الساحات، فهؤلاء حولوا ساحات الاحتجاج الى طقوس دينية، “قراءة القرأن وبث اللطميات والنواح والبكاء ونشر صور المعممين.. الخ”، كانت ممارستهم مخطط لها بشكل مدروس، فرضوا رأسمالهم الرمزي بمقابل رأسمال رمزي تحرري رفعته شبيبة الانتفاضة، الذين اقلقوا السلطة وميليشياتها، فسارعوا الى زج جمهورهم في تلك الساحات لتخريبها، وقد نجحوا في ذلك.
نقلت لنا بعض وسائل الاعلام صراع دار بين الميليشيات ذاتها على تعليق صور لقادتهم، فهؤلاء يرفعون صورة زعيم ويضعون بدلها صورة زعيم اخر، وأولئك يفعلون المثل، وقد اشتد الصراع الى استخدام الأسلحة الخفيفة، كانت التعليقات ما بين ساخرة من هؤلاء وما بين متأسفة لما وصل اليه حال البلد؛ لكن الشيء الذي غاب هو احقية هذه الأطراف بهذا الصراع، فالقضية ان هذه الصورة للزعيم وقائد الميليشيا هي بمثابة رأسمال رمزي لهذه الميليشيا او تلك، تحمل بداخلها دلالة انتماء الأشخاص وتلاحمهم داخل الميليشيا أو المجموعة ذاتها.
“مثقفو السلطة” الذين يملئون الفضائيات يبررون هذه الهجمات ضد هذا التمثال او ذاك الشارع بمنطق السلطة الإسلامية ذاتها، حتى يرسخوا فهما معينا لدى جمهورهم، الذي لديه الاستعداد الكامل للدفاع عن هذا الرأسمال الرمزي الجديد، وحتى يبقون مهيمنين عليه، وفارضين سيطرة تامة على عقول هذا الجمهور.
يقول غرامشي: (إن الدولة تستخدم الثقافة للحفاظ على قبضتها على السلطة)، وهذه العبارة كافية لشرح ما يجري من هجمات على الحريات والثقافة والرموز وسن القوانين والتشريعات الرجعية والظلامية المتخلفة، والتي تعكس وجه سلطة الإسلام السياسي القبيح.
هذا المقال منشور في جريدة الغد الاشتراكي العدد 40- تموز 2024.